لعل أبرز ما يقف عنده الباحث في حياة جمال الدين الأفغاني، مصلح الشرق الكبير، السبق الذي سجله في تلخيص الأزمة الفكرية العميقة للشرق، المسلم على الخصوص، وهو ما لم يُعطَ حقه من الحوار وإعادة البناء عليه، في التسلسل الفكري الضروري لرحلة المشرقيين.
على الرغم من أن الأفغاني حظي باعتراف وتقدير كبير، من علماء وشخصيات ثقافية سياسية وجماهير احتشدت حوله، من المسلمين وغيرهم من طوائف الشرق الذين وجدوا فيه روحاً أخلاقية وفكرية وحقوقية، تحشد الجميع في ثنائية النهضة التي أوقف روحه لأجلها، وهي وحدة الشرق أمام الغزو الاستعماري الغربي المتنوع، عبر الحرب أو السياسة أو الحصار المتعدّد، والثانية الدعوة إلى نهوض المسلمين، من أمراض الاستبداد والتخلف، والعجز العميق، عن تحرير الفكر العقلي الذي ندبت إليه مقاصد الإسلام.
الأفغاني لم يكتفِ بالتفكيك السياسي لخطط المشروع الغربي وعلاقته بالنزعة الفكرية المناهضة للشرق
وعلى الرغم من أن رحلة الأفغاني لا تزال ملهمة تستحق الإعجاب، إلا أن مواطن التحرير الفكري في عالم اليوم تحتاج مسارات جدلية جديدة بعضها حُرّر بالفعل، تتجاوز حدود أفكاره، بحكم تطور النظريات العالمية، وموقف الفكر الإسلامي الفلسفي فيها، موافقةً أو تصحيحاً أو نقضاً، لكن الأصول التي بَنى عليها الأفغاني قاعدة خطابه، وكانت حاشدةً في رحلته السياسية والفكرية، التي وثّقها أقرب تلامذته إليه وحفظها، ودوّن أحداثها، لا تزال بالفعل ملهمة للأجيال، مسرعة الخُطى إلى القلوب والعقول، مذكّرة بمنهجه الفريد رحمه الله، في العبور بين نقد الغرب والإقرار لهم، في أصول التحوّل المدني لنهضة أوطانهم، وهنا حكاية مختلفة عن هذه العلاقة المشتبكة. فجمال الدين الأفغاني ظل مرابطاً بقوة، عند تشدّده مع التدخل الاستعماري والتلاعب بأقطار المسلمين، مع أنهُ كان منفتحاً في الحوار مع الشخصيات الغربية السياسية والفكرية التي كانت تُعجب به، لكن مركزها كان يحذّره، بل ويطارده ويراقبه، ويُضيّق عليه، كلما شعر المستعمر بأن آثار فكره ومنابر خطابه تتحوّل إلى وقود للثوار المسلمين وحلفائهم من الديانات الأخرى التي عانت من بطش الاستعمارين، الأنجلوساكسون والفرنسي.
وكانت له نظرات دقيقة في تفكيك خطط المستعمرين، تُفصِّلُ بين الخُبث الإنكليزي الأدهى الذي يعتمد أقل مستويات القتل، في المستعمرات، ويُركّز على إعدام الوطنيين وحصارهم، حتى تسقط في يديه بلدان الشرق، ويضمن احتواء أي مقاومة، والبأس الدموي المتطرّف للاحتلال الفرنسي والغربي الآخر الذي أثخن في الشعوب، وذبحهم من دون هوادة. ولا يزال هذا المسار في علاقة الغرب بالشرق يحوي أفكاراً وتصوّرات، تحتاج للتلخيص والبحث، في ظل ضعف حركة الاستغراب التي كانت المقابل الأخلاقي في الفلسفة والفكر للاستشراق، في فهم التجربة الغربية الحديثة، وجذورها الدينية السياسية؛ فهذا الفراغ لا يزال يُضعف كثيراً البحوث الأكاديمية المنصفة، في الجدل المعرفي بين ركني العالم الثقافي.
ولم يكتفِ الأفغاني بالتفكيك السياسي لخطط المشروع الغربي، وعلاقته بالنزعة الفكرية المناهضة للشرق، وهو أحد أبرز مفكّري المقاومة في الشرق، وداعمي الوحدة الوطنية بين الأديان والأعراق، لأجل بناءٍ وطني مستقل، يستعيد مصالح المشرقيين من الاستعمار. ولكن حين طَرح عليه تلاميذه في الخاطرات التي كانت تدوّن وتبعث إلى محبيه، رفض الإقرار للغرب بالتفوق المدني بمعنييه، الفلسفي والحقوقي. ولقد بَسط هذا الأمر في خاطراته تلميذه محمد باشا المخزومي، حين أوضح لهم يوم ظنوا أن إشادة الأفغاني باعتناء الغرب بأصول التقدّم المدني وأرضيته العلمية، والتنظيم الدستوري الحقوقي، هو مدنية مطلقة، فأجاب الأفغاني بأن ذلك غير مسلّم، من خلال قياس ما صنعه الغرب، من آلات الحرب والدمار الشامل، ومن خلال ما وظفه من هذه الصناعات وغيرها ضد النفس الإنسانية.
المأساة الكبرى أن تعطيل العقل الإسلامي المبدع الذي تألم على حصاره الأفغاني لا تزال سمومه تسري
كل هذه السيرة التي تنضح عن عقل مبدع استيقظ المشارقة وأيقظهم، منذ قرن ونصف قرن، وظل يهتف ويناشد كل الشرق، حتى وفاته في إسطنبول عام 1897، وكل ما تعرّض له من مطاردة عبر المستبدين المحليين أو وكلاء الاستعمار، فظل يترحل من قُطرِ إلى قطر، تتبعه أوامر الترحيل، والتحقيق والتعقب وقبائل جواسيس أستانة والإنكليز. ولم يشفع ذلك كله لاستمرار مطاردة جمال الدين الأفغاني، ملهم الشرق بعد رحيله.
وهنا يبرز من خلال رسائله ومجمل ما كتب عنه، ومن المنابر التي استهدفته، أن الأفغاني توافق على اغتياله الفكري، ومَنْع الناس من فكره، موقف السلطان عبد الحميد منه، والحملة الجاسوسية الضخمة التي طاردته في حياته ثم أُعيد إنتاجها لتشويهه.
والعجيب أن موقف البنية الدينية الموالية للاستبداد العربي، استنسخت رحلة أستانة في مطاردة جمال الدين، على الرغم من اختلاف المذهب بين العثمانية التراثية الدينية والمشروع التتريكي للعرب، وبين الوهابية السياسية التي اخترقت جماعات إسلامية عديدة، فكل منهما ما زال يشحذ حرابه لتشويه سيرة الأفغاني.
والسبب الأصلي في ذلك هو ما حرّره جمال الدين بنفسه، وثبت في الحديث عنه وعن سيرته، وهو كذلك لدى كل رموز الإصلاح السياسي والثقافي من أنصار مشروع الجامعة الإسلامية الذي تبناه عبد الحميد والدولة العثمانية ذاتها، وكان الأفغاني أحد أبرز دعاتها، كمقابل إصلاحي نهضوي حقوقي للخطط الغرب المركزية، فأخذت أستانة مصطلح “الجامعة الإسلامية”، وعطلت المشروع السياسي، لكي تستخدم الإعلان الخطابي، للدعاية ضد التدخل الغربي، فيما رفضت كلياً أي مضمون فكري إصلاحي، فأحبطت دعاة المشروع قبل خصومه من المشرقيين، وهو كذلك في المطاردة السياسية للمستبد العربي الذي استخدم المرجعية المذهبية لضرب دعاة النهضة.
ولقد قدمت النسخة الخاصة المحققة لكتاب “خاطرات”، من فريق علمي متمكن، منه الراحل محمد عمارة، وقادت المشروع منى أبو زيد، تفنيداً علمياً وتوضيحاً عن الحملة الكاذبة التي تغتال فكرياً الأفغاني، لكن المأساة الكبرى أن تعطيل العقل الإسلامي المبدع الذي تألم على حصاره الأفغاني لا تزال سمومه تسري.
________________________
المصدر: “العربي الجديد”.