لا يهدأ “خط الحياة” المخصص للدعم والوقاية من الانتحار في منظمة “إمبرايس” للصحة النفسية في لبنان عن الرنين. يهدد متصل بقتل نفسه لأنه عاجز عن تأمين قوت أولاده، ويتحدث آخر عن فقدانه الأمل بالحياة بعدما بات مشردا. بينما يعبر مراهقون عن شعور عميق بالاكتئاب.
خلال العام الحالي، تضاعف عدد الاتصالات التي تلقتها المنظمة عبر خطها الساخن. بلغ عددها 1100 شهريا، أي العشرات في اليوم الواحد، مع تسارع الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان منذ عامين والذي انعكس شحا في الأدوية وبينها تلك المخصصة للاكتئاب ونوبات القلق.
بعد انهيار اقتصادي بدأت ملامحه قبل عامين ثم فاقمه انفجار مرفأ بيروت المروع في الرابع من أغسطس 2020، وجد عشرات الآلاف أنفسهم عاطلين عن العمل أو باتت رواتبهم لا تساوي سوى القليل بعدما فقدت الليرة اللبنانية نحو 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار.
وتقول ميا عطوي، إحدى مؤسسي المنظمة: “استيقظنا في أحد الأيام عند الساعة الخامسة والنصف فجرا على اتصال من رجل مشرد في الـ31 من العمر يريد أن ينتحر” عند تقاطع الرينغ المزدحم بالسيارات في وسط بيروت.
وأضافت: “قبل ذلك، تلقينا اتصالا من أب يعيش في منطقة البقاع أراد أن يقتل نفسه لأنه لم يعد قادرا على إطعام أولاده الأربعة، نتلقى اتصالات مشابهة كل يوم، بعدما فاقمت الأزمة الوضع سوءا بشكل كبير”.
واضطرت المنظمة إلى تمديد وقت تلقي الاتصالات من 17 ساعة إلى 21 ساعة يوميا، مع احتمال أن يصل إلى 24 ساعة. أما عيادتها النفسية فمواعيدها محجوزة حتى نهاية أكتوبر. ولا يزال مئات الأشخاص على لوائح الانتظار.
ولا يقتصر طلب الدعم النفسي على البالغين، إذ باتت المنظمة تتلقى اتصالات من قصر دون 18 عاما. وشكلت هذه الفئة العمرية 15 في المئة من اتصالات شهر يوليو مقارنة مع عشرة في المئة خلال الأشهر السابقة.
غرف الطوارئ
في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 45 دولارا وفق سعر الصرف في السوق السوداء، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 700 في المئة. ويجد اللبنانيون أنفسهم مضطرين لدفع ما لا يقل عن مليون ليرة (66 دولارا) شهريا للمولدات الخاصة جراء انقطاع التيار الكهربائي المزمن.
وتفاقمت معاناة اللبنانيين مع تفشي فيروس كورونا وتأثيراته على الصحة النفسية ثم صدمة انفجار المرفأ الذي أودى بحياة 214 شخصا على الأقل وتسبب بإصابة أكثر من ستة آلاف آخرين، ودمر أحياء في بيروت.
ويشير فادي معلوف، مدير قسم الطب النفسي في مستشفى الجامعة الأميركية، أحد المرافق الطبية الرئيسية في لبنان، إلى ارتفاع أعداد المرضى الذين يتوافدون إلى عيادات الطب النفسي.
يشعر لبنانيون كثر مقيمون في الإمارات العربية المتحدة بالعجز والذنب وهم يشاهدون ما يحدث في بلدهم الذي يسجل انهيارا اقتصاديا غير مسبوق، ويعمل عدد منهم على جمع سلع أساسية وأدوية لنقلها إلى عائلاتهم وأصدقائهم.
وقال: “نشهد بالطبع حالات اكتئاب ونوبات قلق وحالات متقدمة منها”، مشيرا إلى أن الوضع تفاقم أكثر لسببين: هجرة الكثير من الأطباء النفسيين تاركين خلفهم مرضى يعانون من أجل إيجاد البديل، والشح في الأدوية المهدئة وتلك المضادة للاكتئاب والقلق، ما يؤدي في حالات معينة إلى الانتحار.
وقد اضطر بعض المرضى، وفق قوله، إلى تخفيف العلاج للحفاظ على أكبر قدر من الأدوية المخزنة لديهم لمدة أطول وتكون النتيجة أن حالتهم النفسية تسوء أكثر.
وأضاف: “حتى أننا رأينا مرضى قرروا التوقف تماما عن تناول الأدوية ما فاقم حالة الاكتئاب لديهم وباتوا أكثر ميلا للانتحار، إلى أن انتهى الأمر بالبعض منهم في غرف الطوارئ”، موضحا أن “هؤلاء هم المرضى الذين كانت أوضاعهم مستقرة سابقا”.
إسعاف أولي نفسي
ومع تزايد الطلبات من أجل حجز المواعيد، تعمل الأخصائية النفسية، نينار إيكناديوسان، 13 ساعة في اليوم. تنتهي من جلسة لتبدأ أخرى.
وترى أن تسارع الأزمات في لبنان يتطلب من الأطباء النفسيين أن يجدوا مقاربات تطرح حلولا سريعة ومركزة.
وقالت: “وكأننا نقوم باسعاف أولي نفسي، كل ما نفعله هو السيطرة على الأضرار” فقط. لكن في بلد بات فيه نحو ثمانين في المئة من السكان تحت خط الفقر، لا يستطيع كثر تأمين قوتهم اليومي، فكيف لهم أن يدفعوا كلفة جلسات علاج نفسي؟
توضح مغالي عيد (23 عاما) المتطوعة للرد على الاتصالات الواردة الى “إمبرايس”، “تلقينا الشهر الماضي اتصالا من أرملة لا تستطيع أن تؤمن الطعام لأطفالها، بدت تائهة، وتسأل ما إذا كان عليها أن تقتل نفسها وأولادها أو تقتل نفسها فقط؟”.
وترى بشرى (26 عاما) المتطوعة أيضا في “إمبرايس”، أن عملها بات اليوم أشبه بـ”مهمة مستحيلة” لإنقاذ المتصلين الذين تخنقهم الأزمات، قائلة: “يجدر بنا أن نمنحهم الأمل في بلد لم تعد فيه مساحة للأمل”.
المصدر: فرانس برس