الأسرة أصبحت مستهدفة بشكل غير مسبوق؛ فلم يعد الأمر قاصراً على إفساد العلاقة بين الرجل والمرأة، بل تعداها إلى تدمير معنى الزوجية في حدِّ ذاته؛ فلا بأس من أن يكون الزوجان من جنس واحد، فيقوم أحد الأطراف بدور الزوج، ويقوم الطرف الآخر بدور الزوجة في تحدٍّ صارخ للفطرة الإنسانية، وانتكاس بها وسقوط في مهاوي الرذيلة، في صورة لا نجد لها شبيهاً بين المخلوقات المسخرة لخدمة الإنسان.
لقد أصابت الأسر في بلادنا زلازل عنيفة ضربت أساساتها في عمق؛ فكثرت حالات الطلاق، وبلغت نسباً قياسية تنذر بخطورة الأمر، وضرره على الأشخاص والمجتمعات والأمم.
وفي محاولة لتدعيم بناء الأسرة، نحاول أن نلقي الضوء على ركيزة أساسية إذا توفَّرت عملت على إيجاد السكن النفسي، والمودة، وتوطيد أواصر المحبة بين الزوجين، ألا وهي «الرفق»، وسنتناوله من خلال علاقة النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، رضوان الله عليهن، ولنا فيه الأسوة الحسنة.
لم يكن الرفق في بيت النبوة -رغم تعدُّد النساء، وكثرة المشاغل، وتتابع الغزوات، ووقوع الفتن- أمراً عارضاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان منهج حياة شعر به جميع نسائه في رضاهنَّ وسخطهنَّ، وفي حِلهنَّ وسفرهنَّ.
فمن فرط شفقة النبي صلى الله عليه وسلم وحَدَبه على زوجاته وصويحباتهن وشعوره بضعفهن ورقتهن ولطافتهن، أنه كان يوصي غلامه بالرفق بهن بعد أن اشتد سوقه للإبل فأسرعت من جمال صوته أثناء حدائه؛ فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ»، قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ، لَوْ تَكَلَّمَ بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ» (أخرجه البخاري، ح(6149) من حديث أنس).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفهَّم طبيعة النساء وغيرتهن التي لا تنفك عنهن، وكان يتغاضى عن بعض الأفعال والأقوال التي تحرِّكها الغيرة، وتوقعهن في بعض الغلظة والخشونة، ويقابل ذلك بالتغافل وبالقول الحسن.
فقد كان نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِزْبَيْنِ فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وَصَفِيَّةُ، وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ النبي، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى النبي أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ إِلَى النبي فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئاً، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئاً، فَقُلْنَ لَهَا: فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضاً، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئاً، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئاً، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: «لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ»، قَالَتْ: فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ، فَأَرْسَلْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ. فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟!»، قَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ.
فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا، حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ، وَهْيَ قَاعِدَةٌ، فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ، حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: «إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ» (أخرجه البخاري، ح(2235) من حديث أنس).
فقد مارس نساء النبي صلى الله عليه وسلم ضغطاً عليه، لكنه لم ينفعل عليهن، ورد عليهن بالتي هي أحسن، ثم ترك الأمر لهن ينهينه بينهن، والعدل منه كان قائماً في كل الأحوال، لكنهن يلجئنه لتغيير الأمر القلبي المستقر من حب عائشة، فهنا يبين بعض الأسباب التي يجعل حبها متمكناً من قبله صلى الله عليه وسلم.
ورغم تلك المحبة القارّة في قلبه تجاه أمنا عائشة، فإن هذا لا يمنع من وقوع بعض المنغصات التي لا تخلو منها الحياة الزوجية، لكنه لم يكن يسمح لأحد مهما كان أن يتدخل في العلاقة بينهما، بل ويدافع عنها؛ فذات مرة جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ عَائِشَةَ وَهِيَ رَافِعَةٌ صَوْتَهَا عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أُمِّ رُومَانَ وَتَنَاوَلَهَا، أَتَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَحَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ لَهَا يَتَرَضَّاهَا: «أَلَا تَرَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَكِ».
قَالَ: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ يُضَاحِكُهَا، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَشْرِكَانِي فِي سِلْمِكُمَا، كَمَا أَشْرَكْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا. (أخرجه الحميدي في «مسنده»، ح(1209) من حديث أنس).
وقد وصل رفقه بأمنا عائشة أنه كان يعلم أنها تزوجت ولم تتمتع بطفولتها تمتعاً تاماً، فكان يتركها تلعب بالعرائس مع صَوَاحِبها، وكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ ويستترن مِنْهُ مهابة، فكان يُسَرِّبُهُنَّ ويرسلهن ليَلْعَبْنَ مَعها. (أخرجه البخاري، ح(6149) من حديث أنس).
وإذا كان ما تطالبه به نساؤه أمراً لا حرج فيه، فإنه لم يكن ليعاكسهن في ذلك، وكان يمضي رغباتهن، وإن كان بعض الرجال يعاكس زوجته في بعض طلباتها وحوائجها لا لشيء إلا ليثبت لنفسه أنه الآمر الناهي في بيته، وأن على زوجته أن تسمع وتطيع؛ فقد انتهت أمنا عائشة من حجتها وقد كانت قارنة، لكنها أرادت أن تعتمر فقبل ذلك تطييباً لخاطرها.
وفي قيامه لليل بين يدي ربه لم يكن يُقلق زوجاته، بل يخشى أن يوقظهن؛ فقد روت أمنا عائشة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي» (انظر: الحديث الذي أخرجه البخاري، ح(6130) من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها).
ومن رفقه صلى الله عليه وسلم أنه قد يفعل أموراً قد يأنف البعض من فعلها الآن؛ فإنه لما تزوج أمنا صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ كان يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. (أخرجه مسلم، ح(1213) من حديث جابر بن عبدالله).
وكان يراعي ظروف زوجاته، ولا يفرض عليهن أموراً قد تسبب لهن عنتاً ومشقة؛ فقد كانت أمنا سودة ثقيلة وبطيئة، فاستأذنت في حجة الوداع أن تدفع من المزدلفة إلى منى قبل زحمة الناس فَأَذِنَ لَهَا، قالت أمنا عائشة: فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. (أخرجه البخاري، ح(1681)).
فهذا غيض من فيض لطف النبي صلى الله عليه وسلم ولينه ورفقه بنسائه؛ لنتعلم منه أن الرفق في موضعه مكرمة من مكارم الأخلاق.