عبقٌ نفيسٌ ممزوجٌ بخليط مُقدَّس من الذكريات الرمضانية.. تلك الذكريات التي رُسِمت كأحلى لوحة تزيِّن جدار الزمن، تعود إليها بين كل وقتٍ وآخر؛ لتعيش لحظاتٍ مع كميةٍ من المشاعر الآنفة، ويمرُّ عليك شريطٌ من الماضي الجميل، ذلك الذي شكَّلتْه إحدى أهم مراحل حياتك، وطبعَتْ عليه صورة المظاهر الرمضانية بكل تفاصيلها، وفي خِضَمِّها تخوض أنت تجربتك الأولى، التي تأبى إلَّا أن تكون واحدةً من ذكريات ماضيك الرمضاني.
لن أنسى ذلك اليوم الذي عاد فيه أبي من عمله، يحمل كيسًا يحتوي على بعض المواد الغذائية التي اعتدنا على رؤيتها في شهر رمضان، فهي وإن كانت متوافرة في سائر الأيام؛ إلَّا أن لها في رمضان نكهة خاصة، ومنظرًا فريدًا، يجعلها مختلفة عنها في غيره، فهل ذلك يعود إلى شكلها، أم إلى طريقة تحضيرها، أم إلى رائحتها، أم إلى مظاهر تبادلها والتعامل معها؟ لعلَّ الأمر يعود إلى كل تلك التفاصيل، وهذا -في الحقيقة- هو ما شكَّل لديَّ الذكريات التي أتكلم عنها الآن، التي لا تفارقني كل ما مرَّ عليَّ رمضان أو تجدَّد طيفه.
يعالج أبي محتويات الكيس، ويخرجها واحدة تلو الأخرى، وأنا أقف أمامه بكل كبرياء؛ فقد فعلتُ اليوم شيئًا لا يفعله إلا الكبار، وها أنا ذا أثبتُ ذلك، رغم تلك المسحة الظاهرة للجوع على وجهي؛ فإني رفضتُ محاولات أمي بتناول بعض اللقيمات، أو احتساء جرعاتٍ من الماء، ومن ثمَّ أواصل صيامي بعدها ولا ضير.. لقد أدركتُ حينها أن تلك المحاولات ستعيدني إلى مصافِّ الصغار، وأنه ليس من اللائق عليَّ «صوم العصافير»، ولا أخفيكم يا أصدقائي أن وخز معدتي كان أكثر إلحاحًا عليَّ للاستجابة لمحاولات أمي، ولكن لم يمرّ عليَّ إغراء أشدّ من رائحة الطعام؛ وهو يغزوني إلى عقر أنفي قبل موعد الإفطار بسويعات، حينها -حقَّا- أكاد أعود بالأثر مستجيبًا لمحاولات أمي، مع أنها قد انتقلت معي إلى مرحلة «التصبير»؛ إذْ لم يتبقَّ إلَّا القليل لموعد الأذان، بينما أنا «أرابط» في موقعي المُفضَّل بجانب قدور الطعام مع أمي في المطبخ، وهي تحضِّر الطعام وتعالج صيامي الأول، وأنا لا أقصِّر في إسعادها تارةً وفي تضايقها تارة أخرى.
ماذا يمكنني أن أفعل! أنا بحاجة للمزيد مما يجب عليِّ الاطلاع عليه وبشكلٍ آني، ولا أعتقد أن ذلك كثيرٌ عليَّ؛ فأنا صائم، وما يهمني هو ما كنت أودُّ معرفته من أمي أولًا بأول: كم الساعة الآن؟ كم تبقى من الوقت للأذان؟ ما الفطور؟ وما العشاء؟ هل حضَّرتِ لنا المكرونة؟ هل هناك طبق مهلبية؟ وبالطبع؛ لم أقصِّر في مساعدة أمي -كمراقب أطباق- حيث أنبهها على الناضج منها، وأجهِّز لها متطلبات المائدة، ومكانها، وصحون الفطور، وأسألها دومًا عمَّا بقي أو ربما نسيناه، فأنا لا أريد أي نقص، فهذا رمضان.. وأنا صائم!