أصدرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تقريراً عن زواج الأطفال جاء فيه: «يُعتبر زواج الأطفال والزواج القسري من انتهاكات حقوق الإنسان والممارسات الضارة التي تؤثر بشكل غير متناسب على النساء والفتيات على المستوى العالمي، ويمنعانهن من العيش حياتهن بمنأى عن أي شكل من أشكال العنف، ويهددان حياة ومستقبل الفتيات والنساء في جميع أنحاء العالم، ويسلبانهن قدرتهنّ على اتخاذ القرارات بشأن حياتهن، ويعطلان تعليمهن ويجعلانهن أكثر عرضة للعنف والتمييز وسوء المعاملة، ويمنعانهن من المشاركة بشكل كامل في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية».
وقد حدد التقرير سِنّ ذلك الزواج فجاء فيه: «زواج الأطفال هو أي زواج لم يبلغ فيه أحد الطرفين سِنّ 18 عاماً».
وقد استعرض التقرير جدوى الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة على الصعيد الدولي بسَنّ القوانين والتشريعات للحد من تلك الممارسة، فجاء فيه: «في العقد الماضي، تم منع 25 مليون زواج أطفال على مستوى العالم، بفضل رفع معدلات تعليم الفتيات، واستثمار الحكومات بشكل استباقي في حياة المراهقات، وإذكاء الوعي العام بأضرار زواج الأطفال».
وكل ما سبق جاء بناءً على ما تقرره مواثيق الأمم المتحدة في تحديد سِنّ البلوغ، فقد جاءت المادة الأولى من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل تعرّف الأشخاص حتى سِنّ 18 كـ«أطفال».
متى يصبح الإنسان بالغاً؟
وإن أردنا تقويم ما سبق، مراعين الأصول العلمية، فلا بد من تحديد تقريبي للسن التي يبلغ فيها الإنسان من وجهتيه الجسدية والنفسية، فأما عن البلوغ الجسدي فقد جاء في الدليل الإرشادي (MSD) أنه بالنسبة للذكور «البُلوغ هو المرحلة التي يصبح في أثنائها الذكور قادرين على التناسل بشكل كامل، ويمتلكون سِمَات لجنسهم كبالغين، يحدُث البلوغ عند الأولاد غالباً بين عُمْر 10 – 14 عاماً، ولكن من غير المألوف أن يبدأ البلوغ في عُمْر مُبكر مثل العام التاسع أو أن يستمرَّ إلى عُمْر 16 عاماً»، وبالنسبة للإناث «البلوغ هو فترة النمو والنماء يكتسب فيها الأطفال والمراهقون سِمَات جسدية للبالغين، مثل الثديين أو شعر العانة، ويصبحون قادرين على إنجاب صغار، بالنسبة إلى البنات، يبدأ سن البلوغ في عُمْر يتراوح بين 8 سنوات ونصف سنة إلى 10 سنوات عادة، ويستمر حوالي 4 سنوات»، والناظر في ذلك يعلم أن تسمية الزواج لمن دون الثامنة عشرة بزواج الأطفال أو القُصّر تسمية مضللة على الصعيد الجسدي.
العلاقة بين التشريعات والجرائم اللاأخلاقية
وأما عن البلوغ النفسي، فكما يعلم الجميع على اختلاف أفكارهم وبلدانهم، أنه لا سِنَّ محدداً للبلوغ النفسي، فقد يبلغ ذكر (أو أنثى) ويكون قادراً على إدارة البيت ورعاية الأطفال في سن الرابعة عشرة أو قبلها أو بعدها، وقد لا يبلغ آخر (أو أخرى) حتى بعد الثلاثين والأربعين، فإن ذلك منوط بعوامل تربوية وبيئية وعلمية ونفسية، وهذا تحديداً ما يجب الاهتمام به لفائدة حياة الإنسان عامة وحاجياته النفسية والجسدية، ومنها الزواج.
وقد يقول قائل: إن تلك التشريعات مناسبة لما يكون عادة في الواقع، فلن يوفق شاب أو فتاة في زماننا هذا لتعليم أو تربية جيدين في أقل تلك السن، وأن هذا الزواج ما يكون عادة سبباً في الإساءات الزوجية والطلاق وتشريد الأطفال وغير ذلك، فنقول: إن تلك الممارسات اللاأخلاقية ليس الزواج المبكر سبب وجودها، بل إنها موجودة لعوامل عدة، منها: تهميش الدين والأخلاق، وسوء جودة التعليم الروحي، وانتشار المعايير المادية في المجتمعات، وسرقة خيرات الشعوب؛ مما ينهك طاقة الآباء؛ فيستحيل عليهم التوفيق بين متطلبات المعيشة وواجب التربية تجاه أبنائهم.
وهي ممارسات تحصل في كل الفئات العمرية، فتشريع تجريم الزواج قبل بلوغ الثامنة عشرة لن يحل مشكلة انتابتهم نفسياً، بل سيعزز ترك حاجاتهم الجسدية كما هي ولم يوجهها بالإرشاد إلى إشباعها عن طريق مقنن، وتطبيق ذلك هو سبب رئيس في انحراف كثير من الشباب والفتيات دون تلك السن، ودليل ذلك أن الدول الغربية هي أكثر الشعوب تسجيلاً لحالات الاغتصاب والتحرش والابتزاز والعنف الجنسي من الكبار والصغار ومعهم.
فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة يقول تقرير مكتب وزارة العدل الأمريكية، بناء على تقرير إحصائي باسم «العنف ضد النساء في المجتمع الأمريكي»: إن امرأة من كل 6 نساء، ورجلاً من كل 33 رجلاً، قد مروا بتجربة اغتصاب جنسي أو محاولة اغتصاب في حياتهم، وأن حوالي ربع الجامعيات من النساء يقولن: إنهن تعرضن لمحاولات اغتصاب أو تجارب اغتصاب.
ويضيف التقرير: إن 16% من الحالات فقط يتم الإبلاغ عنها، فتكون الولايات المتحدة بها أعلى نسبة اغتصاب وجرائم جنسية في العالم، وتأتي بعدها السويد التي تحتل المرتبة الأولى كأعلى معدلات اغتصاب في أوروبا، وتشكل دول بجانبهما كبريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا أعلى معدلات اغتصاب في العالم، ولا يشك أحد أن تلك الدول هي الأعلى في جودة التعليم وفي رفاهة المعيشة، رغم أنها الأعلى أيضاً في حجم التردي الأخلاقي والسلوكي!
شريعة الله أحكم وأصلح
ونحن -أهل الإسلام- مؤمنون أن الأصلح لحياتنا هو ما قرره الخبير سبحانه وتعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، وأن الشريعة الإسلامية لم تحدد سن الزواج، ولكنها حثت عليه متى ما استطاعه الإنسان؛ جسدياً ونفسياً، فقال تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ، فإنَّه له وِجَاءٌ» (رواه البخاري).
فالزواج مُعين للمسلم في نفسه على العزوف عن المحرم، وفي الوقت نفسه، فإنه يُبقِي المجتمع المسلم فاضلاً لا تنتشر فيه مظاهر الانحراف الأخلاقي والسلوكي، فتشريعات كتحديد سن الزواج هي أبعد ما يكون عن العلم والعقل والتجربة، فضلاً عن الدين، والاتعاظ بالواقع الذي انتشرت فيه الجرائم الأخلاقية منذ أن سيطرت تلك الثقافة الغربية خير دليل على فساد تلك التشريعات.