لم يرتبط أمر بالبشرية من أول مراحلها كارتباط الزواج بالبشر، ولم يتأخر ظهوره بعد الإنسان الأول.
إذ اكتملت صورة الإنسانية بخلق حواء زوج آدم وشق الإنسانية الثاني؛ (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) (البقرة: 35).
وبقي الزواج يحمل معنى الآية الكبرى والعلامة العظمى الدالة على طلاقة القدرة، ولِمَا يتجدد مع هذه الآية من آلاء ونِعَم؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
ولم تكن الآية في الزواج الأول، وبداية النسل من آدم وزوجه فحسب، بل تتكرر الآية مع كل حالة، وتختلف على قدر اختلاف شخوص أصحابها، ولكنها لا تخلو من عبرة، ولا تخفى عن كل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد؛ (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ {10} وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم).
فإن الزوجية هنا هي مضرب المثل، ومحل الدرس والفائدة، فهذا نوح عليه السلام وهو الأب الثاني للبشر لا تؤمن به زوجه، وفي المقابل تؤمن زوج فرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: 24)، لتظهر معنا الآية في قصة كليم الله موسى النبي الثالث من أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
أما قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فما يتعلق فيها بأمر الزواج يحتاج إلى مؤلف خاص، إذ كانت قضية الزوجية حاضرة في أهم مشاهد حياته، ويكفي فقط أن نعرف أن بعض أعماله هو وأسرته، أصبحت من المناسك التي يتعبد بها حجاج بيت الله الحرام، فالسعي بين الصفا والمروة هو سُنة هاجر زوج إبراهيم عليه السلام؛ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 158)، والتضحية فداء على سُنة ولده إسماعيل عليه السلام؛ (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات: 107)، وماء زمزم المبارك فجَّره الله تعالى لهذه الأسرة النبوية؛ (رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ) (هود: 73).
ولو وقفنا عند زواج إبراهيم الأول من السيدة سارة أم إسحاق، وما أجراه الله تعالى على يديها من آيات وكرامات، لما اتسعت لذلك هذه الصفحات.
أما رابع الخمسة أولي العزم المفضلين فهو المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، وقصته ومعجزته قائمة على هذه الآية؛ (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران: 45)، حيث وُلد من أم بلا زوج، ليكمل الصورة الأخيرة التي بقي قوسها مفتوحاً من ساعة الزواج الأول في تاريخ الإنسان:
1- آدم أبو البشر خُلق بلا أب أو أُم.
2- حواء خُلقت من ضلع آدم بلا أُم.
3- أولاد آدم وحواء، وسلسلة البشر من أب وأُم.
4- عيسى ابن مريم من أُم بلا أب؛ (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (آل عمران: 47).
ولما قضى الله تعالى بختم النبوة، وإنزال كلمة الوحي الأخيرة إلى أهل الأرض، تهيأ العالم لذلك منذ الزواج الأول، وظل محفوظاً بأمر الله تعالى حتى ميلاد النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
روى الطبراني في «الأوسط» بإسناد حسن عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء».
أما عن الزواج في حياته صلى الله عليه وسلم من نبعته إلى بعثته، وكيف تزوّج وزوّج بناته وأصحابه، فنكمله في مقال قادم، بحول الله تعالى.