إن «الأقصى» والقدس يمران بمرحلة حرجة، وهناك آثار سلبية كثيرة لقرار توقيفي، وأكرر أنه ليس بيني وبين إخواني في «الأوقاف» إلا المحبة في الله، إنما عداوتي مع اليهود، وأولياء اليهود من الحاكمين، لقد سبق أن أوقفت ثلاث مرات؛ إحداهما امتدت إلى خمسة أشهر بسبب القمة الثنائية التي كانت بين مصر والأردن التي مهدت لمؤتمرات ومعاهدات الاستسلام، التوقيف الثاني للمنبر دام شهرين بسبب فتوى ملك المغرب الراحل بأن الحجاب الإسلامي ليس أمراً شرعياً إنما هو تقليد عربي، أما التوقيف الثالث فدام ستة أشهر، وذلك عقب الانتفاضة الأولى.
ومنبر الدفاع عن الأقصى بدأ منذ ثلاثين عاماً، وهو يخوض مع العدو معارك إسلامية كان أثرها واضحاً في اليهود في الانتفاضة الأولى المباركة، إذ كانوا يلقون القبض على كل فلسطيني معه شريط للشيخ القطان، وقد منعت هذه الأشرطة من معظم الدول العربية، وما كانت تدخل إلا تهريباً، أما اليوم، والحمد لله، فقد فتح الله وسائل الاتصالات كالإنترنت، والفضائيات، وما يأتي في المستقبل، وقد عبرت الكلمة الصادقة حدود الطواغيت، ووصلت إلى كل الناس في كل الأرض، وإن من التخلف بمكان منعها في نطاق ضيق، بينما هي تنتشر في كل أرض.
أنا متألم جداً، وحزين جداً؛ إذ إن «الأقصى» وأهله يعانون أشد المعاناة، فقد ضربوا بالطائرات، وهدمت بيوتهم، وقلعت أشجارهم، وقتل أطفالهم، وحرقت زروعهم، وهم الآن يمرون بمرحلة أخطر من ذلك بكثير، وهي إخماد الانتفاضة.
إن المتآمرين الآن يسعون من كل حدب وصوب كأنهم يأجوج ومأجوج، لإخمادها، والمنبر يتحرق، وجماهيره داخل الكويت وخارجها، يعيشون هذه الحرقة، وقد مرت أحداث خطيرة في مرحلة التآمر على القدس و«الأقصى»، منها زيارة وزير الخارجية الموريتاني إلى فلسطين المحتلـة، ومنها قصف المسلمين هناك بالطائرات، وأخشى أن دول الخليج تتهيأ في المستقبل البعيد أو القريب للتطبيع الكامل مع اليهود، وتقوم بالاتصالات السياسية عن طريق بعض دولها، وستنتهي بالعلاقات الدبلوماسية عاجلاً أم آجلاً مع دولة الصهاينة التي يتشدق قادتها، في كل اجتماعاتهم السياسية، والدينية بأنها من «النيل إلى الفرات»، والخليج يقع بين النيل والفرات!
ومن دور «منبر الدفاع عن الأقصى» كشف هذا التآمر، وفضحه على الملأ، وأذكر أن خطبي في الانتفاضة الأولى قد بينت فيها كل ما يحدث الآن من اليهود من نقض العهود، وأنه لا أمان لهم، إنما هي مراحل ومكاسب يحققونها، واستثمار للوقت، وضحك على هذه الأمة.
إن الذين لا يترددون في قتل الأنبياء لا يترددون في قتل العرب المسلمين، والذين يحيون نبينا بـ«السام» وهو «الموت» ويتهمون عقله بالرعونة، وهو أعقل الناس، لا يترددون أبداً في نقض كل المواثيق التي بينهم وبين السلطة، أو بينهم وبين بعض الأنظمة العربية.
إن الأمة الآن تمر بمرحلة خطيرة، وهي الآن على شفا حرب ساحقة ماحقة مع اليهود، فعليها أن تستعد لها، وتربي الأجيال على حب الجهاد، وطلب الاستشهاد.
من العجب أن قضية فلسطين والقدس و«الأقصى» قضية إسلامية صرفة، وأولى من يتكلم فيها بصراحة ووضوح، وأولى من يكشف التآمر عليها، هم خطباء المساجد، بالدرجة الأولى، ومع هذا يوقفونهم، لو كشفوا هذا التآمر، بحجة عدم الإحراج مع الدول العربية أو الصديقة مع أن هذه الدول تعلن عن نفسها بكل صراحة ووضوح، وأنها تتبادل السفراء مع العدو الصهيوني، وتسوِّق بضائعه، إن شباب الانتفاضة -الذين ركَّعوا اليهود- خرجوا من محاريب المساجد تحت صيحة «الله أكبر» التي نادى بها خطباء المساجد.
قضية فلسطين من قضايا الإسلام الأولى، وهي من الخطورة بمكان، وهناك حرب على الأجيال المسلمة من أجل تجريدها من هويتها الإسلامية، وهناك تعاون بين اليهود الصهاينة وأوليائهم من النصارى ويهود العرب، لتمزيق هذه الأمة، وقد حاول الدعاة -منذ سبعين عاماً- أن يعيدوا الخلافة الراشدة، لكنهم وُضعوا في السجون والمعتقلات، وحاولوا كذلك بمعاركهم الجهادية مع اليهود أن يحققوا النصر لكنهم أُخذوا من ميادين القتال إلى ظلمات السجون.
إن الدعاة والمجاهدين يطالبون اليوم بالعدالة -على الأقل- في إعطاء الفرص، وقد أُعطى العلمانيون، واليساريون، والقوميون، وغيرهم فرصاً عظيمة: حكموا الدول، وملكوا ثرواتها، وما زادوا الأمة إلا هزائم، واستسلاماً للعدو، أليس من العدل أن يُعطى الدعاة والمجاهدون والخطباء فرصـة مثل هؤلاء؟!
إن المجاهدين في القدس وفلسطين ينتزعون أوقات الجهاد انتزاعاً، لظرف طارئ، ولتكون الانتفاضة التي يوشك أن تهزم العدو، فيأتي المتآمـرون من كل جانب، لوأدها في مهدها، واستنقاذ العدو من جديد، لمصلحة من؟ لهذا فإن قضيتي الأولى هي تحرير القدس و«الأقصى» فهي قضية كل المسلمين، وهذا لا يمنع أنني قلت آلاف الخطب في جميع الجوانب التربوية، والأخلاقية، والإيمانية، فالإسلام نسيج وحده، كل جانب يلتقي مع الآخر، في تكامل، وتناغم.
من رحمة الله تعالى أن جعل «الأقصى» والقدس عقيدة وقرآناً، وكما نقول عندما نشاهد البيت الحرام: «اللهم زد هذا البيت مهابة، وتشريفاً، وتكريماً، وتعظيماً»، فإننا نتذكر دائماً ارتباطه في آية واحدة بـ«الأقصى» في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1).
ومن نعمة الله أن جعل قضية فلسطين قضية «الأقصى» والقدس، فالدين في النفوس والقلوب، لهذا فهذه القضية في النفوس والقلوب، وهي باقية ببقاء الدين، وباقية ببقاء القرآن العظيم، ثم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بإخوانه الأنبياء، ومعناها تسلمه ميراث «الأقصى»، وتسليمه لأمته، وعندما قام أبو عبيدة أمين هذه الأمة بتحرير القدس و«الأقصى» من الرومان الذين حولوا المسجد إلى مكان للنفايات، والنجاسات، أعطانا نموذجاً بأن الذي سيحرر «الأقصى» مستقبلاً له صفات، فالتاريخ يقول: إنه من أفقر الناس، وأغنى الناس؛ من أفقر الناس زهداً في الدنيا، وأغناهم دينـاً.
إن أول من جاهد لتحرير القدس و«الأقصى» هو الرسول صلى الله عليه وسلم في معركتي «مؤتة»، و«تبوك»، وهنا نذكر جيش أسامة، ومع هذا كان الهلال يمر عليه تلو الهلال، لا يوقد في بيته نار، من الفقر، وكان أغنى الناس دينـاً إذ إن مفاتيح كنوز الدنيا بيده، ولم يستأثر بها لنفسه، أو لعائلته، وكذلك كان الصدِّيق يحمل الصفات نفسها؛ من أفقر الناس، ومن أغنى الناس، فهو يعيش، وأسرته، بعد أن ترك التجارة، بسبب الخلافة، على قوت يومه، وأغنى الناس؛ ففي عهده فتحت كثير من البلاد، وتم توحيد الجزيرة العربية، وكذلك الفاروق؛ كان يلبس المرقعة، فهو من أفقر الناس، وأغناهم؛ لأن كنور كسرى وقيصر كلها بين يديه في المدينة، ويقول للفاتحين: «إن قوماً أدوا هذا لأمناء»، فيقول له مستشاره عبدالرحمن بن عوف: «لقد عففت يا أمير المؤمنين، فعفت الرعية، ولو رتعت لرتعوا»، هكذا كان من أفقر الناس وأغناهم، كذلك كان صلاح الدين الأيوبي، الفاتح، إذ كان كاسمه، أصلح الدين أولاً فقضى على الباطنية، وصحح عقائد الناس، ثم كان من أفقر الناس، إذ إنه لما توفي، كان ميراثه، لا يزيد على 35 ديناراً، وهو السلطان الذي تمتد إمبراطوريته إلى روسيا، فهو أغنى الناس، وأفقرهم.
______________________________________________________________________
نص من حوار لمجلة «المجتمع» مع الشيخ أحمد القطان رحمه الله، العدد (1455)، 24 ربيع الأول 1422هـ/ 16 يونيو 2001.