ازدادت في العقود الأخيرة حالات التعدي على المقدس عند المسلمين، وكان للانتشار الهائل لوسائل الإعلام من الفضائيات والإنترنت تأثيره في إحساس المسلمين بالوجع من تلك الانتهاكات، التي لا تصمت أزمة حتى تشتعل أخرى، وكأن من يقف وراء تحريكها يستهدف أن يبقى المسلمون في حالة من التحفز والاستفزاز، لجذبهم لارتكاب ردود فعل غير مسؤولة لتتأكد الصورة الذهنية الساعية لوصمهم بالإرهاب والعنف والانغلاق وكراهية الغير.
وإن كان من الصعب الفصل بين السياسي والفكري في حالات الإساءة المتكررة، إلا أن المقال سيركز على مناقشة الحدود الفاصلة بين حرية التعبير، التي تستخدم كستار للإساءة، وما يفرضه المقدس من احترم وتبجيل.
حرية التعبير وحرية الإساءة
حرية التعبير أحد المكونات الأساسية للمجتمعات التي توصف بالليبرالية والديمقراطية والانفتاح، التي رأت أن تلك الحرية تصلح أن ترتكز عليها الكثير من حقوق المواطن، وأنها قادرة على كشف الفساد ومكافحته، وتعرية الاستبداد ومقاومته، وتطوير المجتمعات، ومن ثم أولتها الدساتير اهتماماً كبيراً فنصت على احترامها ورعايتها، غير أن الدساتير في التجارب الديمقراطية حولت النصوص إلى ممارسات سياسية ومجتمعية، ولم تبقها نصوصاً حبيسة.
ونظراً للدور الذي مارسته حرية الرأي والتعبير في تقويض سيطرة الكنيسة إبان عصر التنوير، فقد توالت الأفكار لتعميقها، لأهميتها للصالح العام، وغلب الظن في تلك المجتمعات أن قمع آراء الناس يساهم في الاحتقان، وهو أحد مولدات العنف.
وهنا يثور السؤال: هل حرية التعبير حق مطلق أم مقيد؟
من الناحية الفلسفية، تعرف كل المجتمعات المقدَّس، بما فيها المجتمعات العلمانية، والمقدس هو ما يحظى بالاحترام والتقدير والتبجيل، ففي المجتمعات المتدينة فيكون على قمة المقدس: الخالق سبحانه، والأنبياء، والكتب السماوية، أما العلمانية فأنزلت التقديس على بعض رؤاها وأفكارها، مثل مبدأ العلمنة في الفصل بين السلطة والكنيسة، كما هي الحال في دستور فرنسا 1905، حيث أكدت المادة الثانية على علمانية الدولة، باعتبارها قيمة لا تُمس، وأمام هذه القيمة المقدسة تم تبرير التطاول على المقدس وازدرائه، ففي أزمة الرسوم المسيئة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي نشرتها مجلة «شارل إيبدو» عام 2006م، أقامت منظمات إسلامية دعوى أمام القضاء الفرنسي متهمة المجلة بإهانة المسلمين، لكن المجلة دافعت بأن ما قامت به تعبير عن الرأي، ليأتي الحكم القضائي –وقتها- كاشفاً أن المقدس العلماني هو من له السيادة على المقدس الديني، وانتهى الأمر بأنه لن تصدر أي عقوبة أو جزاء ضد الصحيفة، وادعى القاضي الفرنسي أن الرسوم ساهمت في نقاش عمومي يتعلق بتجاوزات المسلمين «الإجرامية»!
والواقع أن حرية التعبير حق معقد، فهو يتضمن حرية إبداء الرأي، وإفصاح المعارضة والمكونات الاجتماعية والطوائف عما تراه، كذلك حق النشر وحرية البحث عن المعلومات والكتابة والصحافة، واستخدام وسائل الإعلام المختلفة.
لكن الحقيقة أن الحدود الفاصلة بين حرية التعبير وحرية الإساءة إلى الآخرين ومقدساتهم ليست حدوداً دقيقة كما يزعم البعض، ولكن حرية التعبير تختلف اختلافاً كبيراً وجذرياً، عن حرية الإساءة والازدراء؛ لأن إطلاق العنان للكلمات للإساءة للآخرين والازدراء بهم، واتهامهم بما لم يثبت أو بالاعتماد على الشائعات، أو إهانة مقدساتهم، نوع من التحريض والكراهية ضدهم، فالكلمات والآراء لا تقف ساكنة، ولكنها تتحرج في مواقف وأفعال على الجانب الاجتماعي يتضمن الاحتقار والاعتداء والقمع والاستبعاد والإقصاء الاجتماعي والسياسي، وإهدار الحقوق، كما أن ازدراء مقدسات الآخرين ليس مسألة رأي عقائدي أو لاهوتي يتداوله ويناقشه أهل العلم والتخصص، ولكنه نوع من الاحتقار يمارَس ضد طائفة واسعة من البشر، فاحتقار المقدس يعني احتقار معتنقيه، والاحتقار مع مرور الزمن يتحول إلى مواقف من الظلم الاجتماعي والسياسي، والعنف، وربما تطور إلى تطهير عرقي مروع.
ومن هنا يمكن القول: إن حرية الكلمة والرأي والتعبير مقيدة بالمسؤولية، أما حرية الفكر فهي براح كبير يمكن أن تناقش وتطرح فيه كل القضايا والمسائل مهما كان تعقيدها أو حساسيتها.
وواقع التجربة الغربية يكشف أن حرية التعبير لم تمنح على إطلاقها، ولكن كانت مقيدة، بل يعاقب كل من يجرؤ على ممارستها والإفصاح عن آرائه، إذا انتُهك المقدس العلماني، والدليل على ذلك من صحيفة «شارل إيبدو» نفسها، مع الرسام والصحفي «موريس سينيه»، الذي نشر عام 2008م نقداً لنجل الرئيس الفرنسي «ساركوزي» اتهمه فيها بأنه اعتنق اليهودية من أجل الزواج من الثرية اليهودية «جيسيكا سيبو دارتي»، فتحولت حياة «سينيه» إلى جحيم، واتُّهم بمعادة السامية وإثارة الكراهية، وطرد من الصحيفة، التي عمل بها 20 عاماً، وقدم للمحاكمة التي برأته، رغم أنه وجه انتقاده وسخريته إلى أشخاص معدودين، ولم يوجها إلى دين والمؤمنين به.
ومثال آخر؛ عندما تم القبض على الممثل الكوميدي «ديودوني مبالا مبالا»، بتهمة التحريض على الإرهاب ومعادة السامية؛ لأنه كتب على صفحته ب«فيسبوك»: «أنا شارلي كوليبالي»، و«كوليبالي» أحد المتورطين في الهجوم على «شارل إيبدو»، كما منعت المحكمة العليا الفرنسية عام 2014م عرض برنامجه «الجدار»، ووجهت له 7 إدانات بمعاداة السامية، واتهمه وزير الداخلية، حينها، «مانويل فالس» بأنه يهدد النظام العام بمعادة السامية وإثارته للكراهية، والأغرب أن عدداً من المثقفين الفرنسيين والإعلاميين والفنانين رأوا أن ما قام به «مبالا» ليس حرية تعبير، بل كراهية، كما أنه ممنوع من الظهور في الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الفرنسي.
ومثال ثالث في عام 2020م؛ عندما فسخت منظمة فرنسية عقدها مع رسام الكاريكاتير الموريتاني «خالد ولد مولاي إدريس»؛ لأنه رسم الرئيس الفرنسي «ماكرون» على هيئة ثعبان ينفث السم، كما أن «ماكرون» نفسه أدان نظيره البرازيلي «جايير بولسونارو» بسبب تعليقاته الساخرة على زوجة «ماكرون»، وفي الولايات المتحدة اضطرت شركة «نايكي» عام 2019م لسحب حذاء رياضي مرسوم عليه علم أمريكي قديم، وقالت الشركة: إنها سحبت الحذاء «بناء على مخاوف من أنها يمكن أن تتسبب في الإساءة إلى العيد الوطني للأمة وتنتقص منه عن غير قصد».
ومن هنا لا يمكن فهم التعدي وازدراء المقدسات الإسلامية خارج سياق استهداف المسلمين، ففي 16 أكتوبر 2004م وقع الرئيس الأمريكي «جورج بوش» الابن على قانون معادة السامية، يلزم فيه وزارة الخارجية برصد وإحصاء الأعمال المعادية للسامية في العالم، وتقويم مواقف الدول من هذه الأعمال، والسؤال: هل هذا القانون قمع لحرية التعبير، بتحويله السامية إلى مطلق؟
أداة أم قيمة؟
هناك أكذوبة؛ هي أن الحق في الإساءة جزء من الحق في حرية التعبير، حتى إن الرئيس «ماكرون» أكد أن حرية التعبير تشمل الحق في الإساءة، وقد طرح د. عبدالوهاب المسيري سؤالاً لمن يرون أن الحق في التعبير حق مطلق، وهو: أليس من حق المجتمع أن يدافع عن نفسه ضد أي اتجاهات تفكيكية عدمية؟ فاستخدام حرية التعبير كستار للإساءة للآخرين نوع من التفكيك للمجتمعات والدفع بها نحو العدمية، ورأى المسيري أن الذين يدافعون عن حرية التعبير سحبوا الإطلاق من الدين وأي قيم مطلقة؛ أخلاقية كانت أم إنسانية، ليجعلوا من الدين شأناً خاصاً، وأمراً من أمور الضمير، وتصوروا أن الدين منفصل تماماً عن عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع الإنساني.
ورأى المسيري أن حياة الإنسان وحياة أي مجتمع فيها قدر كبير من المقدَّسات التي تسبق عملية التفكير نفسه، وأن تفكيك أي مجتمع يبدأ بتفكيك المقدس، وعندما يتفكك ذلك المجتمع فإنه يتبنى مقدسات الغير، ومن ثم يعيد بناء حياته ومنظوماته المختلفة وفق المقدس الجديد، ومن ثم فالتطاول على المقدس تستهدف إزاحته وازدرائه تمهيداً لاستبداله بمقدس آخر.
ولكن، هل حرية التعبير قيمة في حد ذاتها أم أنها أداة؟
الحقيقة أن حرية التعبير قيمة وأداة في ذات الوقت، فكونها مفهوماً وقيمة؛ فإن ذلك يفرض الحماية والرعاية والصيانة، أما كونها أداة؛ فيفرض الالتزام بمعايير معينة عند الاستخدام، ومراعاة الصالح العام للجماعة والمجتمع، فالأداة ترتبط بمعايير للتشغيل، فهي لا تحلق في فضاء الأفكار، ولكن تنزل إلى واقع الناس والمجتمعات، وينطبق عليها ما ينطبق على الأداة من إجادة البعض لاستخدامها، وإساءة آخرين، وهو ما يفرض وجود قواعد للضبط وشروط للتشغيل، لذا فحرية التعبير قيمة، أما حرية الإساءة فهي سوء استخدام لتلك القيمة السامية وتوظيفها فيما يضر الآخرين ويضر بالصالح العام، فالكلام يمكن أن يضر عندما يحض على الكراهية والتحريض والإشاعات وتلويث السمعة وإشاعة الفاحشة، وتحقير الناس، والاستهزاء بمعتقداتهم أو وأصولهم الاجتماعية ولونهم.
السياسي والكاتب الإسباني «جوردي بوجول»، في كتابه الصادر في فبراير 2023م بعنوان «انهيار حرية التعبير: إعادة بناء الجذور القديمة للحرية الحديثة”، أكد أن مفهوم حرية التعبير مع التنوير الأوروبي تخللته جوانب من القصور تأصلت في تكوينه، نظراً لانقطاعه عن تراثه المسيحي والفلسفي اليوناني والروماني، هذا الانقطاع هو ما سمح بأن يفتح الباب لأشكال الإساءة المختلفة مع حرية التعبير، ولعل ما يفرض، بحسب «بوجول»، للعودة للتقاليد القديمة اللاهوتية والأخلاقية المتعلقة بالمفاهيم الإنسانية عند ممارسة حرية التعبير.