كانت لحظة الإذن بالهجرة لحظة الذروة في التاريخ البشري كله، ذلك أن طريق العودة إلى الجنة كان قد اكتمل زمانه بهذه الرحلة المباركة.
محطة الأرض كانت محطة بالغة الأهمية في الوجود، سيعيش عليها مخلوق الله المختار (الإنسان) الذي تمم الله تعالى بخلقه هذا الوجود، ليكون «الوصلة» التي يتصل فيها الروح بالطين (الأزلي والخالد بالفاني والبالي)، والأهم اقتراب وموعد عودة سيدنا محمد ببني آدم، من الأرض إلى الجنة (موطنهم ومنشأهم الأول)، وستكون هنا حرية المشيئة الإنسانية من أهم علامات تلك العودة وضرورتها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وصدق صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «كلكم يدخل الجنة إلا من أبى..».
وستكون في هذه الرحلة أيضاً اللحظة التي سنسمع فيها من رب العالمين على لسان صاحب لصاحبه، سنسمع عبارة من أوقع عبارات اليقين والروح والوفاء والرجاء والحب والرحمة.
ونزل بها الروح الأمين من رب العالمين، لتكون قرآناً يُقرأ ويُتلى إلى يوم القيامة؛ (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، لنسمع بعدها من عمر رضي الله عنه، أبلغ وأوقع جملة قيلت من روح هذه اللحظة، وهذا الموقف، ليس وصفًا لهذا الموقف وحده، بل وصف لسيرة كان هذه اللحظة، وهذا الموقف أحد أشهد شهود صدقها، ماذا قال عمر؟ ومتى؟ قال: أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ وقالها في ساعة تأسيسية مهمة في تاريخ الأمة، لحظة الانتقال بالأمة من رحاب التاريخ النبوي إلى رحاب التاريخ الإنساني، لتستمر بعدها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء بها من رب السماوات والأرض، فتكتمل على الأرض حضوراً بعد أن اكتملت لها رسالة السماء وحياً.
انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بها بعد أن سلمها مكتملة إلى طلائع الأمة الأخيار؛ الصحابة رضي الله عنهم.
لكن الصداقة وصحبة العمر بين أزكى من خلق الله تعالى خُلقا وخَلقاً، وبين الصاحب الذي صادق وصدق تستحق أن يشار إليها كثيراً، ليس لتقارب الصاحبين فقط في الطبع والصفات، ولكن في لتقاربهما في والأخلاق والمكرمات.
كانت الصداقة بينهما قبل الإسلام من الصداقات التي تستحق أن يُحكى عنها وتُدرس في أدب الصداقة والصديق، وقد كانا لا يكادان يفترقان، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يأتي دار أبي بكر في أول النهار مرة وآخره مرة، إلا يوم الهجرة أتى مرة واحدة في الظهيرة.
وهو الحدث الذي لفت نظر أمنا الكريمة السيدة عائشة رضي الله عنها، فقالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إم بُكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أُذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة، أتانا بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، فلـما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث.
فلما دخل صلى الله عليه وسلم تأخر له أبو بكر عن مجلسه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله: «أخرج عني من عندك»، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك؟ والمؤكد هنا أن الرسول هنا كان يتحسب لنقل الحديث ببراءة الفتيات.
وتكمل أمنا الكريمة: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنه قد أُذن لي في الخروج والهجرة»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصحبة يا رسول الله، قال: «الصُّحبة».
قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ.
وحق له أن يبكي من الفرح وما يفوق الفرح في وصف ما بروحه ساعتئذ.. فقد كانا كما تروي السيرة أعظم صاحبَين في تاريخ الأمة، رحم الله أبا بكر الصاحب الصَدِيق الصِّدِّيق الذي قال عنه الرسول مجملاً في وصفه: «ما ساءني أبو بكر قط».
سنجد في القرآن إشارة إلى وصف «الصديق الحميم» كون ذلك أصلاً من مباهج الحياة الجميلة، والإنسان الذي ليس له «صديق صدوق» يكون قد حرم نفسه من شعور لا يوصف بالأقوال والعبارات، فهو أدق من أن يوصف وأصفى من أن يقال، وأبو حيان التوحيدي (ت 1023م) له كتاب رائع بعنوان «الصداقة والصديق»، الذي يقول فيه للصديق عن صديقه: إنه ما هو إلا أنت، لكنه بالشخص غيرك.
وقد كانت هناك صداقات مشهورة في مكة قبل الرسالة، كتلك التي كانت بين العباس عم الرسول وأبي سفيان، وقد وفاها العباس حقها يوم الفتح، وأكرم الرسول صلى الله عليه وسلم عمه في شخص صديقه حين جعل دخول داره علامة من علامات الأمان.
وكذلك تلك الصداقة النادرة بين سيدنا عبدالرحمن بن عوف، وأمية بن خلف الذي كان يتفنن في تعذيب سيدنا بلال، حتى أعتقه الصديق أبو بكر، وتلك الصداقة التي كانت بين سالم العبد الفارسي ومولاه أبو حذيفة بن عتبه، الذي تبناه وزوجه ابنة أخيه.
والمجتمع الذي يرعى هذه الصفة الاجتماعية لا بد أنه مجتمع فيه من يعرف للصدق قدره، وللوفاء قدرة وللعطاء قدره، وهي أهم متطلبات الصداقة، وسيكون فيه أيضاً غير ذلك من الصفات الحسنة والسيئة، لكن صفة كهذه تشير إلى الكثير من أجواء التماسك الاجتماعي الذي سيتلقى رسالة بعظمة الإسلام؛ وهي دلالة مهمة في عالم الأفكار والحركة بها بين الناس.
لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان صديقاً عظيماً كما هو أصلاً على «خلق عظيم»، كما قال الحق تبارك وتعالى، وسنذكر لنا هنا من بعضها ما يقربنا إليها وإلى صاحبها صلى الله عليه وسلم: كان لين الخلق، جميل المعاشرة، رقيق القلب، طليق الوجه، شديداً في غير عنف، متواضعاً في غير مذلة، جواداً من غير إسراف، لا يبث أحداً شكوى، يصافح الغني والفقير، ويسلم مبتدأ على كل من استقبله صغيراً وكبيراً، وتزيد السيدة عائشة: فمن طلب التواضع، فليقتد به ومن لم يرض لنفسه بذلك، فما أشد جهله.
كان صلى الله عليه وسلم من أعظم خلق الله منصباً في الدين والدنيا، فلا رفعة ولا عز إلا في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
وسيحكي لنا الكاتب الإنجليزي الشهير توماس كارلايل الذي عاش 86 عاماً ومات عام 1881م في كتابه الشهير «الأبطال» عن البطل نبياً، وكان قد ألف كتاباً على هذا الوقع في وصف أدوار العظماء في حياتهم، كالبطل موسيقياً، والبطل فارساً.. وهكذا.
لكنه اختار الرسول الكريم ليتحدث عن «البطل نبياً»، ويقولون: إن هذا الكتاب خير كفارة عما كتبه بعض المؤرخين الأوروبيين في القرون الوسطى عن الإسلام ونبي الإسلام، فتحدث عن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع شعث أمة جاهلة مشركة، موزعة الأهواء، قهرت أقوى إمبراطوريات زمنها، في أقل من قرن!
كان حدث الهجرة في تاريخ الرسالة حدثاً عظيماً وفارقاً في الإعجاز الذي صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم، بجمع شعث أمة متفرقة موزعة الأهواء، ليبقى الحدث بجلاله النبوي كما هو، لا نظير له، ولن يكون، وكما قال الرسول الكريم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية».
لكن سيسطع من أنوار الحدث نفسه بكل روائعه وجمالاته ألف قبس وقبس، وستضيء لنا الطريق إلى المعنى كله الذي جاءت به الرسالة إلى البشرية، غاية ووسيلة.