إن التأريخ عند كل أمة يمثل لها أهمية خاصة، فهو يشير لهوية الأمة ويجعل لها مرجعية مستقلة عن باقي الأمم، ولذلك نرى كل أمة تبدأ التأريخ لنفسها بأهم حدث في مسيرتها الذي تعتبره معبراً عن هويتها، ولذلك أيضاً رصد التاريخ الإنساني تقاويم متعددة لأمم كثيرة، من ذلك على سبيل المثال: التقويم الروماني، والتقويم الفارسي، والتقويم القبطي، والتقويم الأمازيغي، والتقويم العبري، والتقويم الهندوسي، والتقويم الصيني.. الخ.
التأريخ بالهجرة
وقد حرص المسلمون الأوائل، لهذا السبب، على إنشاء تأريخ يكون خاصاً بالأمة الإسلامية، فبعد مشاورات أجراها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفقت الكلمة على بدء التأريخ للمسلمين بعام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها من أحداث جسام عظام، فتبقى الهجرة هي الحد الفاصل بين عصرين للمسلمين؛ عصر الدعوة وعصر الدولة.
ولعل هذا المعنى هو ما يبين لنا حرص الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين في عصور الضعف على تغيير التقويم المعتمد في الوطن العربي المسلم، ما يدل على كونه هوية للمسلمين يجب أن نحافظ عليها.
فقد اشترط الأوروبيون على الدولة العثمانية حين طلبت منهم مساعدات عسكرية ضد روسيا إلغاء التقويم الهجري من المكاتبات بينهم، ونفس الأمر مع الدولة الخديوية المصرية حين طلبت مساعدات مالية للإنفاق على إنشاء قناة السويس، فطلب منها إلغاء التقويم الهجري من المكاتبات، فتم إلغاؤه عام 1292هـ/ 1875م، واستبدال التقويم الميلادي به.
أصل التقاويم
كل التقاويم، فيما نعلم، اعتمدت على دورة الشمس أو دورة القمر، وهذا المبدأ يقرر القرآن صحته بوضوح، فقال تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الإسراء: 12).
تأريخات عليها ملاحظات
ورغم أن دورة الشمس ثابتة تقريباً من حيث طول اليوم الشمسي وعدد أيام السنة الشمسية، فلم تسلم الشهور الشمسية من تلاعب الحكام تلاعباً شديداً خاضعاً لأهوائهم.
ففي التاريخ الميلادي مثلاً، نجد شهوراً 30 يوماً، وشهوراً 31 يوماً، وشهراً أقل من 30 يوماً.. ومع أن هذا تقسيم بدأه علماؤهم على قواعد صحيحة لاحتواء أيام السنة الـ365 يوماً كلها، وربع اليوم الزيادة كل سنة؛ ما جعلهم يضيفون يوماً كل أربع سنين لتصبح السنة 366 يوماً، وهو ما نسميه «السنة الكبيسة».
بعد ذلك قام أباطرة الرومان، والكهنة معهم، بالتلاعب في أيام الشهور فصاروا يضيفون لهذا الشهر يوماً وينقصون من ذاك، بحسب الأهواء، ومجاملة لإمبراطور معين، حتى يأتي من بعده ثم يعيد القسمة، وهكذا بلا ضابط ثابت.
وفي التاريخ القبطي مثلاً قسم المصريون الشهور ثلاثين يوماً متساوية، فاضطروا لإضافة شهر أيامه قليلة خمسة أو ستة أيام، فصارت السنة عندهم ثلاثة عشر شهراً، والشهور اثنا عشر كما قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ) (التوبة: 36).
ميزات التاريخ العربي
أما التأريخ العربي، حتى قبل الإسلام، فقد سلم من هذا التلاعب، لأنه يعتمد على دورة القمر التي لا تملك قوة أرضية أن تغير فيها شيئاً، فمن يستطيع أن يزيد أو ينقص والشهر يبدأ بالهلال وينتهي به؟ قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: 189).
ومعلوم أن الشهر القمري يكون ثلاثين يوماً، ويكون تسعة وعشرين يوماً، لا يزيد ولا ينقص عن هذا؛ لذلك كان التلاعب العربي لا يعدو أن يكون نسيئاً للأشهر الحرم، فإن أرادوا قتالاً في شهر حرام قاتلوا وقالوا نؤخره لشهر آخر، وقد نعى عليهم الله هذا فقال: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (التوبة: 37).
ارتباط التأريخ الهجري بالأحكام الشرعية
حين تسأل الناس في الشارع، في الدول التي لا تعتمد التأريخ الهجري في أنشطة حياتها، كرواتب الموظفين مثلاً، لا تكاد تجد من يعرف التاريخ الهجري بدقة؛ لأنه لا علاقة له بأنشطته اليومية، فبدء الدراسة وحياة الموظف ومواعيد الأسفار وكل شيء في حياتهم بالتاريخ الميلادي، فما حاجتهم للتاريخ الهجري، اللهم إلا في شهر رمضان وأيام الحج لارتباط هذه الأيام بعبادات عظيمة عند المسلمين.
والمتأمل يجد كثيراً من الأحكام الشرعية مرتبطة بالسنة الهجرية القمرية، مثل صوم رمضان، والحج ومناسكه العظمى في أيام ذي الحجة.
والزكاة يُعتمد فيها حولان؛ الحول الهجري لا الميلادي، وهذا خطأ يقع فيه كثير من المسلمين للأسف فيحسب زكاة ماله بالسنة الميلادية، وكذلك صيام شهرين متتابعين في الكفارات المعتمد فيه أيضاً الشهور القمرية لا الميلادية.
لذلك أدعو جميع أولي الأمر من المسلمين لاعتماد التاريخ الهجري في أنشطة حياتنا اليومية، ففي ذلك من الفوائد الكثير، منها:
– كون التاريخ الهجري مرجعاً وأساساً، فهذا يحفظ هوية وانتماء المسلم لدولة الإسلام الأولى.
– يحيي في نفس المسلم ذكريات الإسلام الأولى، وتاريخ الجهاد النبوي، إذ كيف أتذكر غزوة كذا ومعركة كذا وأنا لا أذكر تاريخ اليوم الهجري الذي أعيشه؟!
وتأمل تجد الناس لا يذكرون تاريخاً إلا غزوة «بدر» و«فتح مكة» لكونهما حدثين عظيمين في رمضان الذي يعدون أيامه لارتباطه بالصوم، ولولا فريضة الصيام لنسيه الناس أيضاً.
وليس هذا من فضول القول أو الدعوة لفرعيات، بل هو والله أول الحفاظ على هوية الأمة، وانتماء المسلمين.. والله تعالى يهدينا سواء السبيل.