شكلت الهجرة إلى المدينة واحدة من الحوادث التي توقف عندها المفكرون في قراءتهم لتاريخ التحول الذي مرت به شبه الجزيرة وامتد منها إلى العالم بأسره، وكان المستشرقون سباقين إلى الاهتمام بالهجرة، وتابعهم نفر من الحداثيين العرب انطلقوا في تحليلاتهم من منظور مادي، ورفضوا المنظور الديني وتوصلوا إلى نتائج لا تبعد كثيراً عن آبائهم المستشرقين، وفي السطور التالية نستعرض مقولات ثلاثة من الحداثيين حول الهجرة، وهم: محمد أحمد خلف الله، وسيد القمني، وهشام جعيط.
خلف الله: الهجرة والقتال
كان محمد أحمد خلف صاحب كتاب «الفن القصصي في القرآن» واحداً من أوائل الناظرين في الهجرة من منظور مادي؛ إذ كتب في العقد الرابع من القرن الماضي مقالاً تناول فيه الهجرة باعتبارها حدثاً سياسياً، وحول هذا المعنى يقول: «إن هجرة محمد- هكذا- لم تكن هرباً من دار خوف إلى دار إيمان، لكنها كانت انتقالاً للمرحلة الثانية والأخيرة من مراحل تبليغ الرسالة، وهو طور التبليغ بالعنف بدلاً من السلم، فقد عرفت السنوات العشر التي أمضاها الرسول في المدينة أول وآخر رسول يؤمر من السماء أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم منه؛ وهو ما يعني أن الهجرة لم تكن حدثاً إيمانياً وانتقالاً بدين الله من المحلية إلى العالمية، إنما هي جزء من مخطط إستراتيجي وضعه الرسول استبدلت فيه الأدوات السلمية بالأدوات العنيف وحل فيه السيف محل المجادلة والإقناع».
القمني: الهجرة والقومية
تابع سيد القمني نهج خلف الله ونظر إلى الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة قومية تبناها آل هاشم منذ الجد عبدالمطلب وصولاً إلى الرسول صلوات الله عليه، ففي كتابه «الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية»، زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتبع خطوات جده، حيث تتبع خطواته إلى غار حراء الذي اعتكف فيه الجد من قبل، وأعلن أنه نبي الفطرة الحنيفية، ومثلما جاءت جده عبدالمطلب «الرئي وغته ثلاثاً»-لا نفهم المقصود لكنه نص كلامه- ليحفر زمزم جاءه جبريل بالوحي، ومثلما اهتم جده بالتحالف مع الأخوال من أهل الحرب في يثرب، اهتم الرسول بالأمر فلقى «المحاربين» من يثرب عند العقبة الذين استعرضوا قدراتهم العسكرية أمامه، وبعد عودتهم هيأوا مدينتهم لاستقباله، لكنه لم يرحل إلا بعد وفاة عمه واشتداد الضغط عليه وعلى آل هاشم، وعندئذ قرر التوجه إلى أخواله في المدينة، وهكذا تكتسي الهجرة -بل والدين- بطابع قبلي، فالدين وشعائره وحوادثه من صنع آل هاشم الذين غادروا مكة بحثاً عن مجدهم السياسي الذي لا ما كان ليتحقق تحقيقه إلا بالمال ولذلك كانت من أوائل المهام التي أنجزها النبي بعد الهجرة الخروج إلى طريق التجارة لقطعه تماماً على أهل مكة، حتى إن عبدالله بن جحش استحل فيه الشهر الحرام إعلاناً لمكة بإعلان مقبل في هيكلها الاقتصادي، فقالت قريش: لقد استحل محمداً وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدماء، فأنزل الله على رسوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (البقرة: 217)»، ويستشف من قول القمني التشكيك في مصدرية الوحي والإيحاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يختلقه لخدمة أغراضه وللرد على مخالفيه.
هشام جعيط: هجرة أم تهجير؟
أما المؤرخ التونسي هشام جعيط الذي تتلمذ في باريس على يد كلود كاهن، فدرس الحقبة التاريخية المبكرة من منظور تاريخاني، وذلك في كتابه «تاريخية الدعوة المحمدية في مكة»، وأول ما نلحظ أنه جرياً على عادة المستشرقين، أطلق على الدعوة الإسلامية مسمى «الدعوة المحمدية»، وشدد على دور الهاشميين في نصرة الدعوة في مختلف مراحلها، وأنه لولا وفاة عمه وانتفاء حمايته لما هاجر إلى المدينة، والعلاقة بين الحدثين وثيقة؛ حيث اضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وفي الأسواق، وهو يشكك في مصادر السيرة وما تقدمه من معلومات حول بيعتي العقبة، حيث يقول: «ما تقصه السيرة هو من نهج الخيال، ونحن نحس بذلك وأنها مفتقدة أي مادة تاريخية».
ويفترض جعيط «أن قريشاً عقدت العزم بعد وفاة أبي طالب على ترحيل النبي وأصحابه، ومن ثم فإن ما حدث ليس هجرة وإنما هو تهجير قسري اضطر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن صحابته مضطرين إليه؛ لأن علاقات القربى ذلك العهد كانت قوية ومتعددة ويصعب تجاوزها، ولذلك وصفهم القرآن بأنهم (أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ) (الحج: 40)، أما بالنسبة للنبي فالقرآن لا يذكر كلمة هجرة بالنسبة لمحمد، بل كلمة إخراج وبكامل الوضوح، وهو ما يخالف مصادر السيرة التي تتحدث عن الهجرة لا الخروج والتهجير الاضطراري، وهذا التعارض بين السيرة والتواريخ والنص القرآني يضعنا في حرج كبير؛ لأن الحدث كبير في تاريخ النبي وتاريخ الإسلام»، ويؤسس على ذلك أن مفهوم الهجرة تضخم وتفخم واتخذ عمقاً دينياً حسب وصفه.
وبالإمكان أن نتوقف أمام بضع مسائل في كلام جعيط:
– الأولى: أنه لا يحيلنا طوال صفحات إلى أي مصادر تاريخية، وهي مسألة مستغربة من مؤرخ درس في الجامعات الغربية ويعلم قيمة المصادر.
– الثانية: أنه قام بجمع النصوص القرآنية التي ورد بها لفظ الإخراج وعددها خمس آيات فقط، ومنها (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) (آل عمران: 195) التي يقيم حجته العقلية كلها عليها، لكنه يتعمد تجاهل أن لفظ اقترن بلفظ المهاجرة في ثلاثة مواضع، وورد منفرداً في آيتين اثنتين لا غير.
– الثالثة: تجاهل جعيط ورود لفظ الهجرة في إحدى وعشرين آية، ومنها قوله (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8)، وقوله: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ) (التوبة: 117)، وعليه لا يعقل أن تكون الهجرة حادثاً هامشياً ثم تضخيمه كما يزعم، ويتحدث عنه القرآن ما يربو عن عشرين مرة.
– الرابعة: انتقاده مصادر السيرة المعتمدة، مثل: السيرة النبوية لابن هشام، وطبقات ابن سعد ووصفها بعدم المصداقية، لكنه في المقابل لم يقدم لنا أي مصادر تاريخية أخرى تدحض روايات السيرة، وفي ظل هذا الغياب يغدو السؤال: ما الأسس التي تم من خلالها ذلك التكذيب؛ أهو الهوى، أم الأيديولوجيا، أم متابعة المستشرقين؟
خلاصة القول: إن تفسيرات الحداثيين للهجرة النبوية افتقرت إلى العلمية وغلب عليها الأيديولوجيا، سيما أن ثلاثتهم انطلقوا من المرجعية الماركسية أو تأثروا بها على أحسن الفروض.