إن الناظر في الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة يجد أنها قد تضمنت أهم المبادئ الإدارية التي تسهم في نجاح الأعمال، وقد سبق الإسلام بها كل النظم والنظريات الإدارية الحديثة، ويتبين ذلك في السطور التالية:
مفهوم الإدارة أهم مبادئها(1):
الإدارة هي التوظيف الأمثل للموارد المتاحة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة.
وللإدارة مبادئ متنوعة، منها: التخطيط والتنظيم والتوجيه والتقويم.
أما التخطيط فهو يهتم بكشف الواقع وتوقع المستقبل ووضع الأهداف وتحديد أفضل السبل لإنجازها.
وأما التنظيم فهو ترتيب الأحوال وتوزيع الأعمال وتوظيف الموارد البشرية والإمكانيات المادية في المسار الصحيح.
وأما التوجيه فهو الإرشاد إلى فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي.
وأما التقويم فهو قياس الأداء وتصحيحه.
فهذه المبادئ الإدارية الأربعة، التي وضعها علماء الإدارة والتخطيط في العصر الحديث لضمان نجاح الأعمال قد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم دعائمها في رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة.
أما التخطيط في الهجرة النبوية(2) فيظهر في تحليل النبي صلى الله عليه وسلم نقاط القوة والضعف في البيئة التي انتقل منها والبيئة التي انتقل إليها، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم على واقع الدعوة في مكة ورأى عداء غالب أهلها للدعوة الإسلامية، كما أدرك واقع الدعوة في المدينة المنورة واستجابة أهلها له، ومن ثم وضع الهدف للانتقال إليها، واتخذ أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف، من خلال بيعة العقبة الأولى وإرسال سيدنا مصعب بن عمير داعياً ومعلماً لأهلها، ثم عقد بيعة العقبة الثانية للتأكيد على نصرة الدين والدفاع عنه.
ثم يأتي المبدأ الإداري الثاني بعد التخطيط؛ وهو التنظيم، وهو المعني بترتيب الأحوال وتوزيع الأعمال.
ويظهر مبدأ التنظيم في الهجرة النبوية الشريفة من خلال التوظيف الأمثل للموارد البشرية والإمكانات المادية.
فقد وظف ما يمتلك من أدوات مادية حيث شراء الناقتين القادرتين على قطع هذه المسافة، وكذلك دعوته صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق إلى الصحبة وحسن اختيار الطريق غير المتوقع بالنسبة للمشركين، وحسن اختيار وقت الخروج من مكة.
أما الموارد البشرية فقد قام بتوزيع المهام على الرجال والنساء والشباب كل منهم فيما يحسن ويجيد؛ فهذا علي بن أبي طالب ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، بغية تضليل القوم وتعطيلهم وكذلك من أجل رد الأمانات إلى أهلها، وهذا عبدالله بن أبي بكر يراقب تحركات الكفار وينقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأخبار، وهذا عامر بن فهيرة راعي الغنم يمحو بغنمه آثار الأقدام، وهذا عبدالله بن أريقط رغم كونه على غير الإسلام لكنه مؤتمن الجانب وخبير في معرفة الطرق، والحاجة ماسة إليه، فاستعان به النبي صلى الله عليه وسلم ليدله على الطريق، وهذه أسماء بنت أبي بكر تنقل الطعام والشراب إلى النبي وصاحبه.
إنه التوظيف الأمثل لكل المواد البشرية والإمكانات المادية لمصلحة الدعوة الإسلامية.
وأما التوجيه وهو الإرشاد إلى فعل ما ينبغي فيأتي في مسارين؛ معنوي ومادي.
أما الأول: وهو التوجيه المعنوي، فقد قام به الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق رضي الله عنه حين خاف من تعقب المشركين عندما وقفوا أمام باب الغار، حيث قال: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا».
وفيه دعوة إلى اليقين في نصر الله تعالى وعدم فتح المجال أمام اليأس أو القلق، بل يحسن المسلم الثقة في ربه مع الأخذ بالأسباب المتاحة.
أما التوجيه المادي فيظهر في توجيه الصحابة إلى الهجرة قبله، واتخاذ المدينة المنورة مكاناً للهجرة، وكذلك التوجيه إلى بناء المسجد في المدينة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وإقامة السوق الاقتصادية وعقد معاهدة التعايش مع سكان المدينة المنورة.
وكلها توجيهات لازمة لتحسين العلاقة مع الله ومع المسلمين وغير المسلمين.
وأما التقويم الذي يعني قياس الأداء وتصحيحه فيظهر في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم أحوال أصحابه بعد الهجرة حين أصبحت المدينة موطناً للمهاجرين وقد شعروا بالحنين إلى مكة، وقد أنشد أصيل الغفاري شعراً في الحنين إليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أصيل، دع القلوب تقر»(3)، وعندما عمت الحمى وأصيب الصحابة دعا النبي ربه قائلاً: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة»(4).
وهكذا يتبين أن مبادئ الإدارة واضحة جلية في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نتعلمها في حياتنا وأعمالنا، فلا نقدم على عمل إلا إذا وقفنا عند هذه المبادئ الأربعة وحققناها، وهي التخطيط والتنظيم والتوجيه والتقويم.
_____________________
(1) ينظر: المفاهيم الإدارية الحديثة: د. محمد القدومي وآخرون، ص 63.
(2) تراجع أحداث الهجرة النبوية في كتاب سيرة ابن هشام، (1/ 480) وما بعدها.
(3) كنز العمال: للهندي، (12/ 210 رقم 34702).
(4) صحيح البخاري، (2/ 667 رقم 1790).