للدكتور صالح النعامي دراسة تحت عنوان «النخبة الإسرائيلية الجديدة.. دراسة في أثر صعود التيار الديني على مراكز صُنْع القرار»، التي صدرت عن مركز الجزيرة للدراسات عام 2020م، ويُعدُّ هذا الكتاب الدراسة العربية الأولى والوحيدة التي تصدَّت لهذا الموضوع، وبالرغم من تأخُّرها الكبير عن بداية وصول النخبة الدينية والقومية إلى الحكم، فإنها أعطت الباحث القدرة على رصد هذه التحولات الكبيرة على النخب الحاكمة في الكيان الصهيوني، وتأثيراتها على الصراع معه، والعلاقات الخارجية له؛ إذ كانت النخبة العلمانية من أصول غربية هي المسيطرة على مراكز صناعة القرار الصهيوني، التي بسطت نفوذها في المجال السياسي والعسكري والقضائي والإعلامي والأكاديمي، إلا أنه وقعت تحولات جذرية على مستوى تشكُّل النخبة في المشهد التأثيري للكيان الصهيوني، والمتمثل في صعود التيار الديني والقومي المتطرف من أصول شرقية بداية من عام 1977م، وحيازته مكانة متقدمة في التمثيل، واحتلاله لمواقع حساسة في دوائر النفوذ، واختراقه لمراكز الثقل في المجتمع والدولة.
وقد أشار مقدم الكتاب إلى دراسات سابقة، ومنها: كتاب «القائد الإلهي.. إعادة صياغة الجيش في إسرائيل» للكاتب إيجيل ليفي، الصادر عام 2015م، الذي رصد فيه تنامي تمثيل أتباع التيار الديني القومي في المواقع القيادية داخل الجيش الصهيوني بشكل يفوق تمثيلهم السكاني، والدوافع التي حثَّت المرجعيات الروحية للتيار الديني القومي بالإيعاز لأتباعهم بالتسلل إلى المواقع القيادية في الجيش، وتحسين قدرة هذا التيار على التأثير في صنع القرار السياسي، والحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، وابتداع آليات تنظيمية ومؤسسية جديدة لهذا النفوذ، ومنها: الأكاديميات قبل العسكرية، والحاخامية العسكرية التي تعمل على تصميم وعي الجنود، والتعبئة القتالية لهم، والتأثير في توجهاتهم وقناعاتهم السياسية، استغلالاً لذلك الفراغ الذي تركه التيار العلماني اليساري، بعد زهده وتراجعه داخل السلك العسكري والأمني، وكتاب: «النخبة الحاخامية في التيار الديني الصهيوني بعد تنفيذ خطة فك الارتباط» للكاتب يتسحاك جايجر، الصادر عام 2010م، الذي استنتج تلك العلاقة بين فكِّ الارتباط بالانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات «الإسرائيلية» فيها عام 2005م، وبين تعاظم الدور السياسي للنخبة الدينية من خلال تصديها لمشاريع التسوية، وهيمنة نِتَاجها الفقهي عبر إصدار الفتاوى بتحريم التفريط في أي شبر من الأرض اليهودية المزعومة، وهو ما يدعّم دور النخب الدينية والقومية داخل المؤسسات الرسمية، وعلى رأسها الكنيست (البرلمان) والحكومة.
تغلُّب الهوية اليهودية على الطبيعة الديمقراطية في الكيان الصهيوني:
يعتقد الساسة الغربيون -وعلى رأسهم صُنَّاع القرار في أمريكا- بأنَّ إعدام «إسرائيل» لحلِّ الدولتين بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين -بالمفهوم الغربي- تعبير صارخ عن الأزمة العميقة لهوية الدولة في «إسرائيل» وطبيعتها الديمقراطية، وأنه يستحيل عليها أن تكون دولة يهودية وديمقراطية في آن واحد، ولكي تكون كذلك فلا بد لها من أغلبية يهودية حتى تكون ديمقراطية يهودية، وهو ما يعني أنَّ ضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى «إسرائيل» سيمنح الفلسطينيين أغلبية ديمقراطية على حساب «الإسرائيليين»، علماً أن 20% من سكان «إسرائيل» هم من عرب 48، ناهيك عن خطورة القبول بحق العودة كما وُعد به الفلسطينيون المهجَّرون منذ القرار الأممي بالتقسيم عام 1948م.
إن هذا الكيان الصهيوني الذي يزعم أنه دولة فشل في صياغة دستوره من طرف جمعيته التأسيسية منذ إعلان ما يُسمى «قيام دولة إسرائيل» يوم 14 مايو 1948م، بسبب انقسامات تياراته السياسية والحزبية والدينية والاجتماعية، حيث يقوم هذا الكيان على مجرد «القوانين الأساسية»، وهي 14 قانوناً أساسياً بديلاً عن الدستور، للتغطية على تلك الانقسامات العميقة، وعدم الاتفاق على هوية وطبيعة الدولة «اليهودية الديمقراطية»، التي لا تعرف إجماعاً على حدودها إلى الآن، فقد تعمقت الخلافات حول مساحة الوطن القومي للشعب اليهودي، بل تعود جذور الصراعات والانقسامات إلى تأسيس الصهيونية نفسها عام 1897م، ابتداء من «الصهيونية العمالية» إلى «الصهيونية الدينية والقومية»، وعدم الحسم في المبنى الهيكلي لنظام الحكم، والعجز عن الفصل في حدود العلاقة بين الدولة والمواطن، وحقوق المواطنة للأقليات القومية والإثنية.
وقد ألقت معركة ما يسمى بالإصلاحات القضائية منذ إعلانها يوم 4 يناير 2023م بظلالها على استحقاق وضع دستور لهذا الكيان، إلا أنه اصطدم ككل مرة بسؤال الهوية اليهودية وعلاقتها بالطبيعة الديمقراطية للدولة المزعومة، وأزمة العلاقة العنيفة بين الأرض المقدسة والديانة اليهودية، واشتعال الحرب الهوياتية والثقافية بين العلمانيين والمتدينين، التي زادت من حجم الشرخ في المجتمع «الإسرائيلي» إلى الحد الذي يعتبر فيه «نتنياهو» خطراً على «إسرائيل»، وأنه يشكل تهديداً للأمن القومي الصهيوني، وإلى الدرجة التي صرح فيها وزير الحرب الصهيوني أن الجيش «الإسرائيلي» في ثورة مفتوحة ضد الأجندات التشريعية المتوحشة للحكومة، وإلى المستوى الذي حذَّر فيه الرئيس «الإسرائيلي» أن الأزمة تشكل تهديداً وجودياً لـ«إسرائيل»، حيث يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية، بعد الانقسام في الجيش والمؤسسات الأمنية، وتداعيات الانقسام على الاقتصاد والمؤسسات المصرفية والمجتمعية والأكاديمية، وهو ما سيفضي إلى مجتمع صهيوني منقسم على ذاته، ليس له أي إجماع على أي قضية تجمعه، وهو المجتمع الذي يعاني من هذه الانقسامات الحادة الممتدة جذورها في تاريخ هذا الكيان، لأنه قام على خداع العالم بخرافة «واحة الديمقراطية»، وتزوير الحقائق باسم الهوية اليهودية، واغتصاب الحق الفلسطيني باسم التاريخي التلمودي المحرَّف، وتقديم نفسه للعالم كدولة استثنائية خالية من المشكلات والتناقضات في المنطقة.
انفجارات الشارع على خلفية أزمة الهوية والديمقراطية
انفجار الشارع «الإسرائيلي» بمئات الآلاف، وفي أسبوعه الـ30 ضد حكومة «نتنياهو» اليمينية المتطرفة في إصلاحاتها القضائية يعبر عن حجم الجهل بتوجهات الرأي العام في مواقفه من الأزمات المتراكمة والمعقدة التي تعيشها الشعوب المكبوتة، التي لا تجد إلا الإضرابات والاحتجاجات والمسيرات وسيلة للتعبير عن آرائها الكامنة، وهو الغضب الذي يجب ألا يُختزل في أزمة الإصلاحات القضائية، بل يغوص في عمق أزمة ديمقراطية الدولة في مواجهة يهودية الدولة التي استولى عليها التيار الديني القومي المتطرف.
لقد تعالت أصوات إعلامية «إسرائيلية» ووصفت تلك الإصلاحات بأنها انقلاب قضائي، وأن نتنياهو يريد تغيير النظام «الإسرائيلي» من الديمقراطية إلى الدكتاتورية، وأن المظاهرات صحوة علمانية من أجل حماية استقلالية القضاء عن الحكومة والتوازن بينهما، والمحافظة على شخصية «إسرائيل» كدولة ديمقراطية أكثر منها دولة يهودية في نظر القوميين اليهود المتدينين، والتحذير من خطر الذهاب إلى الجحيم، والتحول من الديمقراطية إلى الثيوقراطية.
الغريب في أزمة الهوية والديمقراطية في «إسرائيل» أنه كلما حقق هذا الكيان الصهيوني انتصاراتٍ دبلوماسية بالتمدد في المنطقة عبر التطبيع وتحقيق السلام المزعوم مع العرب، ولو على حساب السلام مع الفلسطينيين؛ زادت جرعة اليهودية الدينية على حساب الديمقراطية العلمانية في هذا الكيان، وهو ما يعمق أزمة اليهودية والديمقراطية في «إسرائيل»، ويهدد أهم مشروع أميركي في القرن العشرين، صرفت عليه أمريكا مئات المليارات من الدولارات منذ 75 عاماً، على اعتبار أن هذا الكيان هو من أهم نتائج الاستعمار الغربي للعالم العربي، وهو الوسيلة التي أضعفت بها أمريكا العرب، ومنعتهم من وحدتهم وقوتهم، ولكنها تراه الآن يتجه إلى مصيره المحتوم، وهو زوال «إسرائيل»؛ (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2).
لقد أُصِيبت أمريكا بالصدمة مما يحدث الآن في «إسرائيل»، وأخرجت خلافها مع الحكومة اليمينية المتطرفة لـ«نتنياهو» إلى العلن، وهي تدرك خطورة الأزمة وتداعياتها، لأنها تهدد المشروع الأمريكي نفسه؛ إذ إن أزمة الهوية والديمقراطية في «إسرائيل»، وغموض مستقبل المشروع الصهيوني يساهم بشكل كبير في تراجع الهيمنة الغربية، ويزيد في فرص الذهاب إلى ما بعد أمريكا، ويعطي جرعة قوية لعالم متعدد الأقطاب، يُعفي الزمن الأمريكي من الزعامة.