ثم جاء الدور الأمريكي الوارث للإمبراطوريات الاستعمارية الغربية القديمة فأقام توأمة مع المشروع الصهيوني، انطلاقًا من الأساطير البروتستانتية:
فالمستوطنون البيض الآباء المؤسسون الذين استعمروا أمريكا، وأبادوا الهنود الحمر قد اعتبروا أنفسهم بعثًا لبني إسرائيل عند خروجهم من مصر إلى أرض كنعان، فالملك جيمس الأول (1566 – 1625م) ملك إنجلترا الذين خرجوا من بلاده اعتبروه «فرعون»، وأنهم خرجوا إلى «كنعان الجديدة» و«القدس الجديدة»، فهم من ثم شعب الله المختار، ذهبوا إلى أرض بلا شعب لتكون وطنًا لشعب بلا أرض!
ولقد أطلق هؤلاء المستوطنون البروتستانت على بقاع البلاد التي غزوها أسماء عبرانية مثل «حبرون» و«كنعان»، كما أطلقوا على مواليدهم أسماء عبرانية مثل أبراهام، وسارة، وأليعازر، وفرضوا تعليم اللغة العبرية في مدارسهم وجامعاتهم، حتى إن أول دكتوراة (هارفارد) عام 1642م كان عنوانها «العبرية هي اللغة الأم»! وأول كتاب صدر في أمريكا هو «سفر المزامير»، وأول مجلة صدرت حملت عنوان «اليهودي»! كما أطلقوا على نهر كولورادو الاسم التوراتي القديم «باشان»!
وسمحوا ببناء المعابد اليهودية في أمريكا هذه قبل السماح ببناء كنائس الكاثوليك!
وهكذا تمت توأمة أمريكا مع بني إسرائيل، وتأسست الدولة الزاعمة للإحياء اليهودي والصهيوني في القدس وفلسطين!
ولقد تخلقت في هذا المناخ، وبين الأمريكان، الذين سموا أنفسهم «أطفال إسرائيل» (Children of Israel) أساطير المسيحية الصهيونية، التي تؤمن بأن مجيء المسيح يجب أن ينتظر عودة الدولة اليهودية، ومن ثم عملوا على ذلك منذ فجر تأسيسهم لهذا البلد أمريكا.
ولقد تبنى القس الأمريكي جوزيف سمث (1805 – 1844م) مؤسس الكنيسة المرمونية نظرية البعث اليهودي في فلسطين، ولحق به كوكبة من ألمع اللاهوتيين الإنجيليين من مثل سايروس سكوفيلد، ووليم بلاكستون (1841 – 1935م)، ووردر جريسون، الذين عملوا على بناء المستوطنات اليهودية في أرض فلسطين.
كما أنشأ بلاكستون «البعثة العبرية من أجل إسرائيل» المستمرة حتى الآن باسم «الزمالة اليسوعية الأمريكية» التي تمثل نواة جهاز الضغط الصهيوني في أمريكا.
وفي عام 1818م طالب الرئيس الأمريكي جون آدمز (1735 – 1826م) باستعادة اليهود لفلسطين، وإقامة حكومة يهودية مستقلة فيها.
وفي عام 1866م أرسلت البروتستانتية الأمريكية أولى البعثات الاستيطانية إلى أرض فلسطين، يقودها القس آدم، ومعه 150 قسيسًا أمريكيًّا، وفي العام التالي (1867م) قامت على أرض فلسطين أولى المستوطنات الأمريكية، بمشاركة 70 شخصية دينية، من المسيحيين الصهاينة.
وفي عام 1878م قام القس الأمريكي وليم بلاكستون (1841 – 1935م) بالتنظير اللاهوتي للمسيحية الصهيونية، ولاغتصاب القدس وفلسطين، وذلك بكتابه «المسيح آت» وهو الكتاب الذي ترجم إلى أربعين لغة، وأصبح الأكثر انتشارًا في القرن التاسع عشر بعد الكتاب المقدس!
وعندما زار بلاكستون فلسطين عام 1888م رفع شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»!
وذلك قبل عشر سنوات من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، وقبل تأليف تيودور هرتزل (1860 – 1904م) لكتابه «الدولة اليهودية» عام 1896م؛ أي أن المسيحية الصهيونية البروتستانتية هي التي ابتدأت التسويق للمشروع الصليبي على أرض فلسطين حتى قبل أن يتبناه اليهود.
وانطلاقًا من الأساطير الدينية البروتستانتية أصبح المشروع الصهيوني وكيانه «إسرائيل» تجليًا إلهيًّا، يمهد لعودة «الرب يسوع»، وليس كيانًا سياسيًّا يحاسب الدول، ويخضع مثلها للقانون! ولقد عبر القس الأمريكي والتر ريجانز عن هذه النظرية اللاهوتية بقوله: «إن الصهيونية التوراتية، التي هي بالتأكيد أمنية كل مسيحي تتعلق بشكل أساسي بالله وبأهدافه؛ ولذلك تفهم الصهيونية، من خلال الرؤية المسيحية، على أنها جزء من اللاهوت الديني، وليست جزءًا من السياسة، وإن دولة «إسرائيل» هي مجرد البداية لما يفعله الله من أجل الشعب اليهودي ومن خلال الشعب اليهودي، إن من واجب المسيحيين دعم «إسرائيل» وسياستها باعتبارها إشارة إلهية لرحمة الله، واستجابة لإرادته، على أنها تشكل إشارة توراتية بأن الله منشغل جدًّا في قضايا هذا العالم»(1).
ولأن الأمر دين ولاهوت وليس مجرد سياسة وإمبريالية كان الالتزام الأمريكي نحو «إسرائيل» بكل السبل، من المال، إلى السلاح، إلى «الفيتو» على النحو الذي يستغربه الذين لا يعلمون! كما كان الضغط على صناع القرار لوضع هذا الدين المسيحي الصهيوني في الممارسة والتطبيق.
فالقس وليم بلاكستون في عام 1891م يجمع توقيعات 413 شخصية مسيحية ويهودية على مذكرة تطلب من الرئيس الأمريكية بنجامين هاديسون (1833 – 1901م) عقد مؤتمر دولي من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين، ومن بين الذين وقعوا على هذه المذكرة جون رو كلفر (1839 – 1937م)، ووليم رو كلفر (1841 – 1922م)(2).
وفي عام 1918م، أعلن الرئيس الأمريكي ويلسون (1856 – 1924م) التزام أمريكا بتنفيذ «وعد بلفور»، ثم صادقت أمريكا على هذا الوعد رسميًّا عام 1922م، وقرر مجلس النواب الأمريكي منح اليهود الفرصة التي حرموا منها لإعادة إقامة حياة يهودية وثقافية خاصة في الأرض اليهودية القديمة!
وفي إدارة الرئيس الأمريكي روزفلت (1858 – 1919م) أصبح اليهود الذين يشكلون أقل من 3% من سكان أمريكا يسيطرون على 15% من المناصب القيادية القابضة على المواقع الحساسة في الدولة الأمريكية(3).
وأصبحت الصهيونية المسيحية أو المسيحية الصهيونية العقيدة المحركة للقيادات الأمريكية.
فالرئيس الأمريكي ليندون جونسون (1908 – 1973م) خطب عام 1968م في إحدى المنظمات اليهودية فيقول: «إن لأكثركم، إن لم يكن جميعكم، روابط عميقة مع أرض ومع شعب «إسرائيل»، كما هو الأمر بالنسبة إليَّ، ذلك لأن إيماني المسيحي انطلق من إيمانكم، إن القصص التوراتية محبوكة مع ذكريات طفولتي، كما أن الكفاح الشجاع الذي قام به اليهود المعاصرون من أجل التحرر من الإبادة منغمس في نفوسنا»!
والرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1924 -..) الذي يعتنق عقيدة «الولادة الثانية» يعترف بأن مشاعره المؤيدة للصهيونية كانت الموجّه لسياسته الشرق أوسطية، فيقول في خطاب الأول من مايو 1978م: «إن العودة إلى أرض التوراة التي أُخرج منها اليهود منذ مئات السنين، وإن إقامة الأمة الإسرائيلية في أرضها، هو تحقيق لنبوءة توراتية، وهي تشكل جوهر هذه النبوءة»!
والرئيس الأمريكي رنالد ريجان (1911 – 2004م) هو القائل عام 1984م: «إنني أعود إلى النبوءات القديمة المذكورة في العهد القديم، وإلى المؤشرات حول «هرمجيدون»، فأتساءل بيني وبين نفسي: ما إذا كنا الجيل الذي سيرى تحقق ذلك؟ إن هذه النبوءات تصف بالتأكيد ما نمر به الآن»(4)!
_______________________
(1) محمد السماك (الدين في القرار الأمريكي) ص26، 27 طبعة بيروت 2003م.
(2) المرجع السابق ص33، 34.
(3) المرجع السابق ص81.
(4) المرجع السابق ص41، 42.
المصدر: «مجلة الأزهر»، 12 أبريل 2015م.