تحتل الحبشة (إثيوبيا) مكانة عظيمة في التاريخ الإسلامي، وتتمتع بالعديد من الآثار الإسلامية، حيث شهدت الهجرتين لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استقبلهم ملكها في بداية الدعوة الإسلامية، حيث أوصى نبينا الكريم أصحابه المضطهدين في مكة قائلاً: «إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه»، في إشارة إلى ملك الحبشة المسيحي آنذاك أصحمة النجاشي.
كانت تلك العبارات الصادقة للرسول صلى الله عليه وسلم بداية لحضارة إسلامية حطت رحالها في أرض الحبشة، وسجلت تاريخاً تليداً ليس لمنطقة القرن الأفريقي الذي تعد إثيوبيا إحدى دوله فحسب، وإنما للقارة السمراء وشعبها.
قرية «النجاشي».. أكبر الآثار الإسلامية
تحتفظ إثيوبيا بمواقع أثرية تحكي عن الحضارة والآثار الإسلامية في بلاد الحبشة التي لا تزال تسجل حضورها وترسل بريق رونقها التاريخي، وشذا عطرها الإسلامي الفواح، وعلى رأسها قرية «النجاشي» ومسجدها العتيق كأول موضع في القارة السمراء يدخله الإسلام، إلى جانب مدينة هرر شرقي إثيوبيا رابع مدينة مقدسة للإسلام، وفق تصنيف «يونسكو»، وجيما أبا جيفار غربي إثيوبيا كآخر الممالك الإسلامية في بلاد الحبشة، وتلك حكايات نسردها في حينها.
واعتبر المؤرخ الإثيوبي البروفيسور آدم كامل قرية «النجاشي» إحدى أكبر الآثار الإسلامية في إثيوبيا التي يعتز بها مسلموها كغيرهم من مسلمي العالم؛ لما تحمله من معانٍ وقيم إسلامية ودور إثيوبي تصدره الملك النجاشي.
وقال كامل، في مقابلة مع «المجتمع»: إن الهجرة إلى الحبشة تعد أول هجرة في التاريخ الإسلامي، وجاءت على مرحلتين؛ حيث ضمت الأولى 12 رجلاً و4 نساء من الصحابة، وتوجهت إلى الحبشة بعد أن أشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
ولفت إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «لو تفرقتم في الأرض حتى يجعل الله فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه»، ودعاهم للتوجه إلى الحبشة، قائلاً: «اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً صالحاً عادلاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق».
وفي السنة الخامسة من البعثة (615م)، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من صحابته الهجرة إلى أرض الحبشة، وذلك بعد ما حوربت رسالته بضراوة في مكة المكرمة.
وأوضح أن الصحابة المهاجرين حطوا رحالهم في منطقة تعرف اليوم بقرية «النجاشي»، التي نجدها اليوم على بعد 45 كلم من مدينة مقلي حاضرة إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا (770 كم من العاصمة أديس أبابا)، مشيراً الى أن قرية «النجاشي» نسبة إلى الملك النجاشي، أو أصحمة بن أبهر، الذي حكم أرض الحبشة في الفترة بين عامي 610 و630م.
وأضاف كامل أن اختيار النجاشي هذا الموقع لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه شيء من النظرة الإستراتيجية التأمينية لهم، حيث إن قرية «النجاشي» تبعد 210 كلم عن البحر الأحمر، وأراد النجاشي أن يضمن لهم الخروج الآمن في حالة أي نزاع أو خلاف قد تشهده البلاد.
وتفيد المصادر التاريخية بأن الملك النجاشي (لقب كان يطلق على حاكم الحبشة آنذاك) أسلم بعد أن تأثر بالمسلمين المهاجرين، ودفن جثمانه في القرية عام 9هـ/ 630م، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة غائب.
اهتمام تركي بقرية «النجاشي»
لم تكن أهمية قرية «النجاشي» لدى مسلمي إثيوبيا فحسب، وإنما لجميع مسلمي العالم خاصة الأتراك، حيث ينظرون إلى هذا التاريخ الإسلامي نظرة إكبار وإجلال.
وأشار البروفيسور كامل إلى اهتمام واحترام الشعب التركي للملك النجاشي والصحابي الجليل بلال بن رباح، وقال: إن الشعب التركي يكنّ محبة خاصة لهاتين الشخصيتين الإسلاميتين، وإن اهتمام الحكومة التركية بقرية «النجاشي» وتاريخها الإسلامي والمحافظة على هذا الإرث لم يكن مستغرباً.
وفي 18 نوفمبر الماضي، زار السفير التركي لدى إثيوبيا بيرك باران، على رأس وفد كبير، إقليم تيغراي الذي يحتضن قرية «النجاشي»، بينهم منسق وكالة التعاون والتنسيق التركية بإثيوبيا (تيكا).
وأكد السفير التركي، خلال لقائه مع رئيس الإدارة المؤقتة في إقليم تيغراي غيتاتشو ردا، رغبة بلاده للعمل من أجل إعادة بناء «مسجد النجاشي» التراثي الذي طالته الحرب الأخيرة، قائلاً: نعلم أن ضريح النجاشي والمباني الأخرى المحيطة به، التي تم ترميمها من قبل «تيكا» بحاجة إلى إعادة ترميم، واليوم جئنا مع منسق «تيكا» للوقوف عليها والعمل على إعادة ترميمها مجدداً.
خطوة عدها الباحثون والمهتمون بالآثار الإسلامية حماية لتاريخ قرية «النجاشي» الإسلامية النابضة بالحيوية كحضارة لا تعرف الاندثار، في بلد استقبل أهله الهجرتين الأولى والثانية في الإسلام.
وفي تصريحات لـ«المجتمع»، قال منسق «تيكا» بأديس أبابا جنكيز بولات، الذي شارك في الزيارة الأخيرة: إن تركيا ستفعل ما هو ضروري لإعادة ترميم مقبرة ومسجد النجاشي المتضررين من الحرب الأخيرة، وشدد على أهمية الترميم، وأضاف أن هذا العمل مهم للغاية للتاريخ الإسلامي والتراث الثقافي الإثيوبي.
يذكر أن قرية «النجاشي» شهدت، قبل 4 سنوات، عملية ترميم واسعة من قبل وكالة «تيكا» التركية، ضمن مشروع مجمع إسلامي يضم ضريح ومسجد النجاشي، بجانب 15 ضريحاً للمهاجرين الأوائل في الإسلام إلى الحبشة (10 من الرجال و5 من النساء).
واعتبر الباحث والأكاديمي الإثيوبي كامل، في حديثه لـ«المجتمع»، أن زيارة الوفد التركي إلى إقليم تيغراي والتزامه بإعادة ترميم وصيانة مسجد النجاشي بالخطوة المهمة والكبيرة خاصة في مجال السياحة الدينية.
وقال: إن مسجد النجاشي يعتبر من المواقع التاريخية والتراث الإسلامي بالمنطقة، وإن تركيا تريد أن تحافظ على جهدها السابق في هذا المسجد.