ارتفع الصحابة في الدين؛ حيث أحبّوا الله ورسوله حبّاً عظيماً وقدموا حبّهم على كل شيء، كما أنهم أبغضوا ما يبغضه الله ورسوله، ووالوا ما والاه الله ورسوله، واتَّبعوا رسوله، واقتفوا أثره. لقد أحبَّ الصَّحابة ربَّهم، وخالقهم، ورازقهم؛ لأنَّ النفوس مجبولةٌ على حبِّ من أحسن إِليها، وأيُّ إِحسان كإِحسان من خلق فقدَّر، وشرع فيسَّر، وجعل الإِنسان في أحسن تقويم، ووعد من أطاعه بجنَّة الخلد التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لهذا كلِّه، ولأكثر منه أحبَّ ذلك الجيل ربَّهم حباً لا مثيل له، فقدَّموا أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم في سبيل الله بلا تردُّدٍ، أو منَّةٍ، بل اعتبروا ذلك تفضُّلاً من الله عليهم، أن فتح لهم باب الجهاد، والاستشهاد في سبيله، ويسَّر لهم أسبابه، فقاموا بذلك الواجب خير قيام. (الإِيمان وأثره في الحياة، للقرضاوي، ص 5 ـ 12).
وهذه هي الصفة الكبرى التي اتّصف بها الصحابة الكرام، والتي بها سلكوا سبيل الهدى، وحازوا السبق، وحصّلوا الدرجات العلا في القيم والأخلاق، فكانوا أمثلة يحتذى بها، ويُنهج طريقها، ويتبع أثرها. ومن صفات هذا الجيل وأخصهم أبو بكر رضي الله عنه:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *} [المائدة: 54].
هذه الصِّفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أوَّل مَنْ تنطبق عليه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وجيوشه من الصَّحابة الذين قاتلوا المرتدِّين، فقد مدحهم الله بأكمل الصِّفات، وأعلى المبرَّات، فهذه الصِّفات: (عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الصَّحابة الكرام ،2/534).
أـ {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}:
مذهب السَّلف في المحبَّة المسندة له سبحانه وتعالى: أنَّها ثابتةٌ له تعالى بلا كيف، ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيءٍ من خصائصها. (تفسير القاسمي، 6/253).
لقد أحبَّ المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ ذلك الجيل لما بذلوه من أجل دينهم، وبما تطوَّعوا به بما لم يفرض عليهم فرضاً تقرُّباً إِلى الله، وحبّاً لرسوله، واتخاذهم المندوبات، والمستحبات كأنَّها فروضٌ واجبةُ التَّنفيذ. (كيف نكتب التَّاريخ الإِسلاميَّ، لمحمد قطب، ص90)
ولقد اتَّصف هذا الجيل بصفات الإِحسان، والتَّقوى والصَّبر، الَّتي ذكر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ بأنَّه يحبُّها، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [آل عمران: 134]، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ *} [آل عمران: 76].
ب ـ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}:
فهذه صفات المؤمنين القمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه، ووليِّه، متعزِّزاً على خصمه، وعدوِّه (تفسير القاسمي، 6/255).
ولذلك قام الصِّدِّيق وجنوده الكرام بمناصرة المسلمين، وخرج بنفسه يقاتل المرتدِّين، وسيَّر أحد عشر لواء لرفع الظُّلم عن المؤمنين، وكسر شوكة المرتدِّين، ولم يقبل من المرتدِّين الَّذين عذَّبوا المستضعفين من مواطنيهم المسلمين إِلا أن يأخذ بحقِّهم منهم، فيفعل بهم كما فعلوا بهم، وكذلك فعل قادة جيوشه، وكان رضي الله عنه حريصاً على مراعاة أحوال الرَّعيَّة في المجتمع، فقد مرَّ بنا كيف كان يعامل الجواري، والعجائز، وكبار السنِّ، رضي الله عنه.
لقد سادت هذه الصِّفات في عصر الصِّدِّيق، وتجسَّدت في حياة الناس.
ج ـ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}:
وقد ظهرت صفة المجاهدة لأعداء الله في عصر الصِّدِّيق في حربهم للمرتدِّين، وكسرهم لشوكتهم، ومن بعد في الفتوحات الإِسلامية الَّتي سيأتي تفصيلها بإِذن الله تعالى، لقد جاهد الصَّحابة أعداءهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وتحقيق عبادة الله وحده، وإِقامة حكم الله، ونظام الإِسلام في الأرض، ودفع عدوان المرتدِّين، ومنع الظُّلم بين النَّاس، وبالجهاد في سبيل الله تحقَّق إِعزاز المسلمين، وإِذلال المرتدِّين، ورجع النَّاس إِلى دين الله، واستطاعت القيادة الإِسلاميَّة بزعامة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدةً للانطلاق لفتح العالم أجمع، وأصبحت الجزيرة هي النَّبع الصَّافي؛ الَّذي يتدفَّق منه الإِسلام، ليصل إِلى أصقاع الأرض، بواسطة رجالٍ عركتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعدِّدة في مجالات التَّربية، والتَّعليم، والجهاد، وإِقامة شرع الله الشَّامل لإِسعاد بني الإِنسان حيثما كان. (فقه التَّمكين في القرآن الكريم، ص491)
لقد كان الجهاد الَّذي خاضه الصَّحابة في حروب الردَّة إِعداداً ربَّانياً للفتوحات الإِسلاميَّة، حيث تميَّزت الرَّايات، وظهرت القدرات، وتفجَّرت الطَّاقات، واكتشفت قياداتٌ ميدانيَّة، وتفنَّن القادة في الأساليب، والخطط الحربيَّة، وبرزت مؤهلات الجنديَّة الصَّادقة، المطيعة، المنضبطة، الواعية؛ الَّتي تقاتل؛ وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدِّم كلَّ شيءٍ وهي تعلم من أجل ماذا تضحِّي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقاً، والتَّفاني عظيماً. (تاريخ صدر الإِسلام، ص 143)
لقد توحَّدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله، ثمَّ جهاد الصَّحابة مع الصِّدِّيق تحت راية الإِسلام لأوَّل مرَّةٍ في تاريخها بزوال الرؤوس، أو انتظامها ضمن المدِّ الإِسلامي، وبسطت عاصمة الإِسلام ـ المدينة ـ هيمنتها على ربوع الجزيرة، وأصبحت الأمَّة تسير بمبدأٍ واحدٍ، بفكرةٍ واحدةٍ، فكان الانتصار انتصاراً للدَّعوة الإِسلاميَّة، ولوحدة الأمَّة بتضامنها، وتغلُّبها على عوامل التفكُّك، والعصبيَّة، كما كانت برهاناً على: أنَّ الدَّولة الإِسلاميَّة بقيادة الصِّدِّيق قادرةٌ على التغلُّب على أعنف الأزمات. (تاريخ الدَّعوة الإِسلاميَّة، ص256)
وهكذا كان الصَّحابة يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لوم أحدٍ، واعتراضه، ونقده، لصلابتهم في دينهم، ولأنَّهم يعملون لإِحقاق الحقِّ، وإِبطال الباطل. (تفسير المنير، 6/233).
د ـ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}:
الإِشارة إِلى ما ذُكر من حبِّ الله إِيَّاهم، وحبِّهم لله، وذلَّتهم للمؤمنين، وعزَّتهم على الكافرين، وجهادهم في سبيل الله، وعدم مبالاتهم لِلَوْم اللوَّام، فالمذكور كلُّه فضلُ الله الَّذي فضَّل به أولياءه، يؤتيه من يشاء؛ أي: ممَّن يريد به مزيد إِكرامٍ من سَعَةِ جوده، والله واسعٌ، كثير الفواضل جلَّ جلاله، عليمٌ بمن هو أهلُها، فهو تعالى واسع الفضل، عليمٌ بمن يستحقُّ ذلك ممَّن يُحْرَم منه. (تفسير المنير، 6/233).