في الشارع، وعلى الدوار، تخطو أم البراء هادئة هانئة، على وجهها المجعد تتداخل علامات الفرح بآيات النشاط رغم آثار حزن باق وضعف ملازم تبسطهما الأحداث، وجدت ما خلع عليها سعادة ليست فيها، فحدثت نفسها:
– هيه! تبدو في الأفق نقطة راحة، بعد يومين تُزَفّ الزهراء إلى ابن عمها، وتفسح المجال لشقيقها البراء الذي أرجأ زفافه إلى ما بعد زفافها مدفوعاً بخلة الشهامة المتأصلة في نفسه، ويتم التوأم جهاد وإياد دراستهما الجامعية هذا العام، ويتمثل العبء الذي أرزح تحته في خالد الصغير فحسب.
رغبتها في إسعادهم تصرع كل شيء أمامها، ودائما ما ترهق ميزانيتها، تتسع بسمتها دخيلة نفسها فتضيف:
– الجميع اليوم في إجازة لإنجاز بعض الأعمال المتعلقة بزفاف الزهراء، سأعد لكل منهم طعامه المفضل.
وعلى مألوف عادتها في كل مناسبة، تؤوب إلى الطواف في الفصل الرحب من حياتها، فصل جمع وجودها المشترك مع أبي البراء ورسم معالمه، يحمل في باكره ملامحها الأولى كزوجة، وفي آخره ملامح صعود أبي البراء في موكب الشهداء قبل أن تعلو به السن ولم يسلخ خالد الصغير من الأيام سوى عام، وبين باكره وآخره ذكريات لم تطو الأيام والليالي منها شيئاً، تجترها راضية، فتسترسل:
– رحم الله أبا البراء، ورحم أكناف بر وأعطاف رجولةٍ تقلبت فيهما ورتعت، سنون عشر مضت على رحيله رغمها خلد بذكراه، وبقي بأريحيته يَمْثُـل طيفه في كل أشياء عالمي وعليها، أشعره ملء الحياة، أنفاسه الطيبة ما زالت تختلط بهواء أنفاسي، ولولا رحمة الله بي لوقفت في إثره حائرة ضائعة.
بعد غياب طال ألمَّ بمنامي أمس زائراً..
كانت قد صفـَّت قدميها في ليلتها بين يدي الله، قامت ما تيسر لها من قيام، أوت إلى مضجعها، استلقت في غفوة قصيرة تقوم بعدها لصلاة الفجر، ألمّ بها الزائر الغالي.
تغمض عينيها وتفتحهما متتبعة آثار وخُطى رؤياه في نفسها، بعينين مرهفتين مملؤتين غبطة وإكباراً تفحصته جيداً، كان مشرقاً، صافي القسمات، يبرق النور في عينيه وعلى وجهه، قرأها السلام، غيَّب خالداً الصغير في أحضانه، قبـَّله ثم دفعه نحوها في حنو، صافح بقية الأولاد، تلبث بينهم لحظة خاطفة، زَفَـرَ في راحة وبصره موصولاً بأبصارهم، استدار منصرفاً تاركاً بصمة زيارته على صفحة شعورها.
تهز رأسها متمتمة:
– يا لسعده! يا لهناه! كان ألزم لعبادته من طعامه وشرابه، طفق يعمل للجنة حتى نهاية شوطه وغاية مطافه.
تسبقها نظراتها تصل أم البراء إلى السوق، ضجيج وعجيج تغلفهما روائح طازجة، باحثة عمَّا تريد، تتبع خطواتها نظراتها، ابتاعت لحماً وسمكاً ودجاجا، التفتت صوب تجمع بائعي الفاكهة، تتسع داخلها مساحة البسمة:
– ولكل من الأولاد فاكهته المفضلة أيضاً.
آه، في يقظة الضمير العالمي الغريقة في جور لا متناهٍ صرخت غزة، ارتجت الأرض من تحتها، بادلتها أم البراء ارتجاجاً بارتجاج، وصراخاً بصراخ:
– بلدي.. ولدي.. بلدي.. ولدي..
طائرات صهيون تستبيح السماء والدماء، الشجر والحجر، أسدلت على غزة قناع صهيون الوحشي القبيح فتخضب وجهها بالدماء، واتشح ثوبها بأعمدة الدخان وألسنة اللهب.
بين غمار من الناس تثب أم البراء بقدر ما تتيح لها قوتها تهرول ميممة صوب الدار، تتراخى قبضتاها، تأبه لما تحمل من طعام الأولاد المفضل، فتشد قبضتيها عليه.
تثب، تهرول، تقف، تصمت، تحملق، تصرخ، تترنح، تنحني، تجثو مسلوبة الحيلة والفكرة، ممزقة الخاطر والرؤية.
تملأ عينيها بمشهد أنقاض الدار المختلطة بأنقاض المسجد المجاور، في دفعة واحدة ينسل أمن فؤادها، يترع كمداً سيظل ينزفه.
تملأ عينيها بمشهد الفجيعة المرعبة، في دفعة واحدة ينسل تركيز ذهنها، تذهل عن كل الأصوات التي تنتظم سباباً وصراخاً، نداء ودعاء، لا تلقي يقظتها بالاً لكل الحركات السريعة والنشيطة الباحثة عن أحياء تحت ركام أحقاد صهيون السوداء، وأنقاض عنصريتهم البغيضة.
يتسمر بصرها على الأنقاض حاداً، تنظر إلى آلاف الأعوام من الألم الموصول بالمرارة، آلاف الأعوام التي يكفي ألم اللحظة الواحدة منها لشطر القلوب، وإيقاف العقول، وضلال الألسنة.
إن أولادها تحت الأنقاض صرعى بعدما سعت جهدها لتربيتهم، وتهيئة أسباب السعادة لهم، يود بصرها التكذيب فيعجز، يلتمس مهرباً وفراراً فيعجز.
وتحت وطأة المفاجأة المفجعة تستريب في حال اليقظة التي هي عليها، تتمنى على خيالها الأماني، تتخيل أن ما تراه ليس إلا أضغاث أحلام، لكنها حقيقة وقعت!
تصدمها رياحها فتتداخل في أسماعها أصداء كل الفواجع، وتتدافع في وجدانها كل آلام الثكالى وأنات المحزونين.
إنها محنة انتظمت كل قساوة المحن المريرة.
هل من سبيل إلى وصف مشاعرها؟
هل نستطيع الاقتراب والتصوير؟
لا.. ممنوع الاقتراب والتصوير، فمثلها لا يدركها إلا من انغمس في نارها..
لم يبق غير السماء لها، لاذت عيونها بها، سألت نفسها محتدة:
– هل هي لحظة الانكسار؟
أجابتها في روية:
– لا.. إنما ينكسر غيرنا!
تتساءل وما زالت على حدتها أو ما زالت حدتها عليها:
– أما كنت تنشدين السعادة لهم ولكِ؟
بئست السعادة في غير الجنة! فاحتسبيهم، واسترجعي ليكونوا فرطكِ إلى هناك.
شهقت، زفرت، هدأت، التمعت قوة العقيدة في فؤادها سعت بها إلى القمة، وسعت بجبروت صهيون إلى القاع.
ودون أن تعطي لنفسها فرصة لالتقاط الأنفاس جعلت تردد في لهجة منغمة أسيانة:
– إنـَّا لله وإنـَّا إليه راجعون.. صابرون والله، والله صابرون..
أيدٍ تجذبها، ألسن تهتف بها:
– خرج الصغير حيـَّا.. خالد بخير، خالد بخير..
حملوه إليها، فتحت ذراعيها، ضمته، شمته، هتفت به:
– عش لتثأر، دمك فداء لفلسطين، دمك هبة للقضية!
انخلع الصغير من أحضانها، تراجع خطوة للخلف، وبعين اختلطت على صفحتها الدماء بالدموع مد يداً جريحة مرتعشة، وضعها في يد أمه مبايعاً وهو يحاول تثبيتها.
_______________________
قصة «ممنوع الاقتراب والتصوير» من مجموعة «تحت المساحيق».