على مدار عقود، تتواصل حالة من الجدل بشأن الديمقراطية وآلياتها ومدى جدواها في عالمنا العربي، فضلاً عن أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها وبين مبدأ الشورى الإسلامي، وهي الحالة التي تتصاعد كلما اقتربت عملية انتخابية هنا أو هناك.
حول هذه القضايا وغيرها، كان حوارنا مع الكاتب والمحلل السياسي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الجزائري د. يحيى بوزيدي.
يرى البعض أن الديمقراطية من المصطلحات التي تعاني التباساً وغموضاً، ما تقييمكم لهذا الرأي؟ وما مفهومها الأدق؟
– تعرف الديمقراطية في ترجمتها الحرفية بأنها حكم الشعب، وانطلاقاً من هذا حاول الكثير من المنظرين تقديم تعريفات للديمقراطية تقود في المحصلة الأخيرة إلى هذه النتيجة؛ أي حكم الشعب، وتأثرت تلك التعريفات بالتجارب المختلفة للدول الغربية في الطريقة التي جسدت بها حكم الشعب، وبناء على ذلك وضعت بعض الشروط التي يتوجب أن تتوفر حتى يوصف نظام ما بأنه ديمقراطي، نتيجة لكل هذا تضاربت التعريفات المقدمة لهذا المصطلح السياسي، كما أن كل التعريفات تحتوي على مصطلحات تعريفها بدوره محل جدل على غرار: الحرية، المساواة، الأغلبية، الانتخابات، المجتمع، المشاركة. وبهذا فإنه من الصعوبة بمكان وضع تعريف دقيق لمصطلح الديمقراطية.
وضع الشورى كمقابل للديمقراطية ينطوي على ظلم للمصطلحين
ما أوجه الاتفاق والاختلاف بين الديمقراطية والشورى؟
– هناك تقاطع بين الديمقراطية والشورى من حيث تعبيرهما على مصالح الشعب أو الأمة في الحكم، وأخذ القائد السياسي لرأي رعيته بالمفهوم الإسلامي أو مواطنيه بالمفهوم الديمقراطي عند اتخاذ القرارات السياسية، ولكن يبقى الفرق بينهما جوهرياً من حيث منابعهما، فالشورى مصطلح قرآني مقدس، بينما الديمقراطية اجتهاد بشري، كما أن الشورى تحيل بشكل أكبر إلى نخبة المجتمع وقادته، التي تعكس مجتمعة مصالح الأمة، في حين يحيل مصطلح الديمقراطية لمفهوم الأغلبية الشعبية بالدرجة الأولى التي يمكن أن تشارك في الحكم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
يتسم المدافعون عن الديمقراطية بإطارها الفلسفي الغربي بالازدواجية؛ إذ في الوقت الذي يصرون فيه على أن مثالب الديمقراطية تتعلق بالتطبيق يرفضون نفس الأمر بالنسبة للشورى، ما تعليقكم؟
– عادة ما يكون هناك جدل بين الإطار النظري لأي فكرة أو تصور بينما تكشف تطبيقاته عن أوجه قصور ونقائص تحتاج للمراجعة، فالموضوعية تقتضي التعامل مع ثنائية التنظير والتطبيق وفق هذه المعادلة، والمقارنة بين ظاهرتين يستوجب أن يكون ذلك في سياق متشابه بمعنى المقارنة بين الأطر النظرية للمفهومين والأطر التطبيقية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن التشريع الرباني قدم الشورى كمبدأ عام يفترض بأي مسؤول أن يعمل وفقه انطلاقاً من مدى ورعه وتقديره لمسؤوليته، والكيفية التي تطبق بها الشورى تبقى خاضعة للظروف التي تختلف من حالة لأخرى؛ لذلك لم يوضع إطار تطبيقي ثابت كون التجارب تختلف من مجتمع لآخر، ومن فترة زمنية لأخرى في المجتمع نفسه، وهنا تكمن شمولية الإسلام لكل الأقطار والأزمان.
تثبت الوقائع أن التجارب الديمقراطية في عالمنا العربي فاشلة، ما أسباب هذا الفشل؟
– هناك العديد من الأسباب التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أدت إلى فشل الديمقراطية في المجتمعات العربية، أهمها يكمن في كون المصطلح ذاته غريباً عن المجتمعات العربية التي لها ثقافة سياسية مختلفة تماماً عن تلك المنتشرة في الدول الغربية التي استوردت منها النموذج الديمقراطي في أنظمة الحكم، الذي ورثته بعضها من مستعمرها السابق، كما أن الدولة وفق النموذج المؤسسي ما زالت في بدايتها في المنطقة العربية، بينما مرت في المجتمعات الغربية بمراحل عديدة تخللتها العديد من الأزمات والحروب حتى نضجت بالشكل الحالي الذي لا يخلو من بعض السلبيات.
ما دامت الانتخابات تحول دون العنف السياسي تبقى هناك جدوى منها
وقد ارتبطت الديمقراطية من الناحية الاقتصادية بوجود الثورة الصناعية، ووجود طبقة متوسطة غالباً ما تكون هي الفاعل الأساسي في العملية السياسية، بينما هذه الطبقة شبه غائبة في المجتمعات العربية سواء نتيجة غنى الدولة أو فقرها.
تعد الانتخابات أحد مظاهر المشاركة السياسية في النظم الديمقراطية، فهل تعتقدون أنها كافية وحدها لتحقيق الديمقراطية؟
– تحيل الانتخابات إلى مفهومين أساسين في الديمقراطية؛ وهما المشاركة السياسية والثقافة السياسية، والانتخابات على أهميتها كآلية لتجسيد الديمقراطية إلا أنه تبقى مجرد ممارسة إجرائية تحتاج إلى مشاركة سياسية كبيرة التي لا يمكن أن تكون بدون ثقافة سياسية حديثة ترتكز على مبدأ الكفاءة والنزاهة في الترشح والتصويت، وهذا ما يغيب في المجتمعات العربية التي تسود فيها ما يصطلح عليه بالثقافة الأبوية والهويات الفرعية سواء العرقية أو القبلية أو الطائفية، لذلك كثيراً ما تكون الانتخابات انعكاساً لهذه المكونات ما دون الوطنية، وبالتالي بدل أن تكون الانتخابات مدخلاً لتجاوز هذه البنى، فإنها تتحول على العكس من ذلك إلى آلية لتكريسها وإعادة إنتاجها من خلال إضفاء بُعد مؤسسي قانوني عليها، تأسيساً على ذلك؛ فإن تحقيق الديمقراطية يتطلب أيضاً ثقافة سياسية ديمقراطية.
في ضوء قراءة التجارب الانتخابية في عالمنا العربي، هل ترون ثمة جدوى لهذه الانتخابات، أم أن إفرازاتها لم ترق لطموح الجماهير؟
– رغم الإخفاقات الكبيرة التي منيت بها التجربة الانتخابية في المنطقة العربية، فإنه من ناحية أخرى لا يمكن إنكار بعض الإنجازات التي حققتها وإن كانت محدودة وظرفية، وفي كل الأحوال تبقى إلى الآن الآلية السلمية التي تدار من خلالها الصراعات السياسية، وما دامت الانتخابات تحول دون العنف السياسي تبقى هناك جدوى منها مع العمل في الوقت نفسه على تصحيح مخرجاتها لتقترب أكثر من تجسيد الرشادة في الحكم.
أمام هذه الإشكاليات، هل يمكن أن نستغني بالديمقراطية عن الشورى؟
– وضع الشورى كمقابل للديمقراطية فيه ظلم للمصطلحين، إن صح التعبير، فسياقاتهما مختلفة كما سبقت الإشارة، ومحاولة فرض مطابقة بينهما تأتي في سياق البحث عن مبررات شرعية لممارسة السياسة، وهذه وإن كانت مطلوبة إلا أن الشورى ليس المدخل الأنسب لها.
هناك إخفاقات كبيرة منيت بها التجربة الانتخابية في المنطقة العربية
الشكل العام الذي تتم به الشورى ليس مصبوباً في قالب حديدي، برأيك ما الشكل الأمثل لمجتمعاتنا؟
– يصعب وضع إطار مثالي ثابت لتطبيق الشورى؛ نظراً للطبيعة المتغيرة للمجتمعات، كما سبقت الإشارة، مع وجود بعض الثوابت فيها، لذلك يتوجب التعامل مع الشورى كمبدأ قيمي يخضع للظروف التي يمر بها كل مسؤول ومجتمع.
إزاء هذا التطور في نظم الحكم في العالم، كيف تنظرون إلى النقاش حول إلزامية الشورى من عدمه؟
– تمر الأنظمة السياسية بتطورات ستقود على المدى البعيد إلى تغيرات جذرية في العمل السياسي، يمكن الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن الظاهرة الحزبية التي ارتبطت بها الديمقراطية في حالة انحصار متواصل، حيث بات المواطنون في المجتمعات الغربية يفضلون منظمات المجتمع المدني على الأحزاب، كما أن المشاركة الانتخابية في تراجع مستمر، والكاريزما التي تعتبر وقود التعبئة السياسية تكاد تندثر بسبب التطورات التكنولوجية، التي أتاحت المجال للشعوب للتعبير عن مواقفها السياسية بطريقة مختلفة، وهذه التطورات تؤكد كما «التغيير» باعتباره الثابت الوحيد في المجتمعات البشرية، كما سبقت الإشارة، وتعزز من فكرة التعامل مع الشورى كمبدأ لا يمكن الاستغناء عنه في كل الأحوال؛ لأن أي تطبيق للمصلحة العامة وتحييد المصالح الشخصية سيكون من خلال تجسيد مبدأ الشورى.