كاتب المدونة: محمد مصطفى عفيفي(*)
التحالفُ وسيلةُ دفاعِ منذ أيام الجاهلية الأولى، حين كانتِ القبائلُ العربية تتحالف وتتعاهد، وحلف «حماس» مع «حزب الله» قضية وجود لكليهما، بصرف النظر عن اختلاف المشروع وافتراق المذاهب، فمن مصلحة «حماس» أن تشتعلَ الجبهةُ الشمالية بجنوب لبنان؛ حتى يخفَّ الضغطُ على قطاع غزةَ بالجبهة الجنوبية، وتقعَ «إسرائيل» بين عدوين، وتتشتتَ جهودُها على جبهتين.
ومن مصلحة «حزب الله» أن تصمدَ غزة وأن تبقى شـوكةً في خِصْـر العدو الصهيوني في الجنوب؛ لأن اجتياحَ غزة وتهجيرَ سكانها معناه أن تتفرغَ «إسرائيل»، بعد ذلك، لـ«حزب الله» وتنفردَ به في الشمال، بعد أن تكونَ قد فرَغتْ من جبهةِ الجنوب واطمأن بالُها؛ ولذلك أعلن رئيس المجلس التنفيذي لـ«حزب الله» هاشم صفي الدين منذ الساعات الأولى لمعركة «طوفان الأقصى» أن «حزب الله» لا يقف على الحياد في هذه المواجهة.
الموقف الإيراني
إذا انخرط «حزب الله» في مواجهةٍ شاملة مع الكيان الصهيوني، فإن ذلك قد يؤدي إلى توسع المواجهة لتشمل إيران نفسها، التي لن تقبلَ بهزيمة «حزب الله» وتدمير بنيته العسكرية، وهو ذراعها العسكرية ويدها الباطشة وأهم أوراق الضغط لديها، ومع ذلك فإيران غير راغبة في التصعيد ولا تريدها مواجهة شاملة، إلا أن سـير الأحداث قد يجبر جميع الأطراف على إعادة حساباته.
الموقف الروسي
إذا تطوّر الصراع في المنطقة العربية واتسعت جبهاتُه ستزداد المساعدات الأمريكية لـ«إسرائيل»، وسيؤدي اشتباك أمريكا وحلفائها في هذا الصراع إلى تخفيف الضغط على روسيا في حرب أوكرانيا، حيث ستقع أمريكا وحلفاؤها بين جبهتين؛ مساعدة «إسرائيل» ودعمها في مواجهة «حماس»، و«حزب الله»، ومساعدة أوكرانيا ودعمها في مواجهة العدوان الروسي، وبالتالي لن يتركَ «حزب الله» حركة «حماس»، ولن تترك إيران «حزب الله»، ولن تترك روسيا إيران.
والآن لنتخيل العكس؛ بدأت الأحداث مع «حزب الله» أولاً واشتعلت الجبهة الشمالية، وكان على «حماس» أن تشارك «حزب الله» أعباء المعركة وتحرك الجبهة الجنوبية، كيف سيكون ردّ فعل الجماهير العربية؟!
ولنتخيل أكثر من ذلك؛ لو كان «حزب الله» نصرانياً وتحالف مع «حماس»، وكان على المقاومة أن تنصرَه لدواعي السياسة، كيف سيكون ردّ فعل الجماهير العربية؟!
في عام 581هـ توفيّ الملك المجذوم بلدوين الرابع، ملك مملكة بيت المقدس الصليبية، وتولى بعده ابنُ أخته الصغير بلدوين الخامس، وكان الوصيّ على العرش هو القُمص ريموند الثالث، أمير إمارة طرابلس الصليبية، ووقع الخلاف بين الصليبيين حول وراثة العرش، حيث طمع في المُلك الكونت ريموند الثالث، ولكن تغلب عليه غي لوسينان، زوج الأميرة سبيلا، أخت بلدوين الرابع، ووالدة بلدوين الخامس، يقولُ ابنُ الأثير: فانتقل المُلك إلى أمه، فبطل ما كان القُمص يُحدث به نفسه.
وتصاعدت الخلافاتُ بينهما؛ إذ شعر القُمص ريموند بعد تتويج الملك غي لوسينان وتخلي البارونات عنه، بالضعف وأنه من الأفضل له التوجه لطبريا حيث أملاك زوجته، ووجّه أنظارَه إلى المسلمين وراسَـلَ صلاح الدين الأيوبي؛ فاستغلها صلاح الدين فرصة وتحالف مع القُمص، يقول الأصفهاني: وهلك المَلك المجذوم، وظهر السّـر المكتوم، وطمع القمص في المُلك استقلالاً، فعُدِم موافقة الداوية، وقالوا: يلزمك العمل بشرط الوصية، فكفل بالأمر وهو مغلوب، وتفقد اختياره فإذا هو مسلوب، ورغب في مقاربة السلطان صلاح الدنيا والدين، ليقوى بجانبه، ويحظى من مواهبه، فاشـتد أزرُه، واسـتد أمرُه. (العماد الأصفهاني، الفتح القسي، ص 54).
أعد ملكُ القدس غي لوسينان قواته ليزحف على ريموند الثالث بطبريا، فبعث إليه صلاح الدين بالفرسان والجنود ومعهم أسلحة كثيرة قدر عددهم بألف شخص وأوصاهم بالدفاع عن القُمص بقوله: «إنهم إذا حاصروه صباحاً أنقذوه مساءً» (د. لؤي إبراهيم بواعنة، علاقة السلطان صلاح الدين الأيوبي بكونت طرابلس ريموند الثالث، ص 911).
والآن تخيل نفسك أحد الجنود الذين أرسلهم صلاح الدين الأيوبي لنُصرة هذا القمص، وقد تُقتل أو تؤسر في صراعٍ بين اثنين من الصليبيين؛ ما النية التي تستحضرها قبيل المعركة؟ ولمَ لمْ يتمرد الجنود على هذه الأوامر؟ ولمَ لمْ يخرج أحدُ الحمقى فيتهم صلاح الدين في دينه وعقيدته؟
لأن الأمة كان لديها من النضج والفهم ما تستوعب به هذه المقاربات والممارسات، وتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرض الصلح على غطفان ومعه ثلثُ ثمار المدينة لم يكن تأييداً لها أو إقراراً بدينها، ولكنها الدواعي السياسية التي تفرض علينا محالفة، أو مخالفة، حسب تداعيات الموقف وتطوراته.
_____________________
(*) باحث في التاريخ والحضارة.