عن تفاعلات القيم والمعاني في عالم ما بعد العبور..
«العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا سرعان ما ينسون!»، مَن يذكر هذه المقولة اليوم، التي حُفِرَت عميقاً في وعي مَن تذمّهم، ورُفعت في مُداولاتِ أمّة العرب والمسلمين عبر أكثر من نصف قرن إلى مصافّ القوْل العقائديّ المأثور، الذي لا يرقى إليه شكّ، فحيكت آلافٌ مؤلّفة من الخُطَب والكلمات والعِظات والمقالات حول هذا الادِّعاء الساذج؛ دون اجتراء على نقْضه وتفكيكه، أو اشتباك نقدي معه روايةً ودرايةً.
يجوز القوْل إنّ الرضوخ لمنطق هذه المقولة العُنصرية الساذجة وما شابهها؛ كان أوضح تعبير عن ثقافة هزيمة استبدّت بالأمّة وأمسكت بخطامها ردحاً من الزمن، تحت تأثير صدمة يونيو 1967م وما سبقها من نكبات.
ذلك أنّ المقولة المضلِّلة لم تثبُت أساساً، فهي خبَر زائف أفصح عن حال الشعوب والمجتمعات والنُّخَب التي تلقّفتها دون تمحيص، وعبّرت عن ازدراء الذات -وإن لم تكن مؤشِّرات القراءة في الأمّة في أفضل أحوالها- عندما سُلِّم بها تسليماً؛ لمجرّد أنّ قائلها المزعوم هو بطل عدوان 1967م؛ أي وزير الحرب المُظفّر موشيه دايان!
تقول الحكاية: إنّ دايان قال قوْلته عندما سُئل بعد الحرب عن عدم اكتراثه بتسرُّب خطّة هجوم «الأيّام الستّة» قبل تنفيذ العدوان الذي ضاعف رقعة الأرض المحتلّة وقتها مرّتين؛ فاحتجّ بالقول ساخراً: «إنّ العرب لا يقرؤون..»، ومن سذاجة العبارة المُزيّفة في مبناها أنّها راجت في قالب سجْع يُمعِن في إذلالٍ عميق طاب لخطباء المنابر وناسجي النصوص في مرافعات الازدراء الذاتي؛ التي راحوا يتبارَوْن بها دون تمحيص أو مُساءلة، وكأنّ دايان جاد بالصياغة العربية المحبوكة لفظاً وسجْعاً، علاوة على أنّ محاولة تعقّب أصلها تفضح اجتراحَها من مِخيال جامح.
https://twitter.com/Hos_Shaker/status/1710618455139930462
انقلب الحال إلى ما يُعاكِسه بين مَشْهديْ الخامس من يونيو 1967 والسابع من أكتوبر 2023م، فتجلّت رسالةٌ نقيضة؛ بأنّ المحتلين الذين أعمتهم غطرسة القوّة لم يُحسنوا قراءة أمارات الحدث الذي زلزلهم ذلك الصباح، حتى إنّهم لم يكترثوا بتحذيرات تلقّوها من أمرٍ مريب يُدبّر لهم، كما جاء في تقارير متضافرة، ولم يأبهوا بجدِّيّة ما أعلنته غزّة بعد نهاية جولة العدوان التي سبقت: «اليوم نغزوهم ولا يغزونا!»، وإنْ استعدّوا جيداً لاحتمالات شتّى تجاوزها عابرو السابع من أكتوبر.
في هذا وغيْره ما يشير إلى أنّ «الطوفان» أغرق ثقافة هزيمة استبدّت بوجدان أمّتها، وأتى على بنيانها من القواعد، فيصحّ الاستنتاج بأنّ الحملة الضارية على قطاع غزة تبتغي، ضمن ما تبتغيه، استردادَ بعضٍ من صورة «جيش لا يُقهَر»، وتشكيك الشعوب والجماهير بجدوى عبور السابع من أكتوبر؛ عبر رفع كُلفته بجرائم حرب مرئية يسهُل على جيوش الإجرام اقترافها بذخائر القتل والتدمير وبغطاء الانحياز الغربي المضمون.
لم يكفّ القاعدون عن التصرّف خلال عهد الهزيمة المديد عن إطلاق أسئلة العجز في الفضاء العربي والإسلامي الحائر، فتردّدت أصداؤها بلا إجابات من الواقع، وكان منها سؤالٌ نمطيّ مُعبِّر عن التثاقل إلى الأرض داخل أقفاص ذهنية: «أين أنت يا صلاح الدين؟!»، كانت الشعوب التي غمرها الإحباط في صحراء التيه المعنوية؛ بانتظار مَن سيهبط عليها من جوف التاريخ فجأة، ليحملها على بساط الريح إلى ساحات القدس المحرّرة!
تعطّلت أسئلة التواكل والقعود مع حدث السابع من أكتوبر، لأنّ الخيال البعيد صار مرئيّاً عن قُرب ومُجرّباً على نحو نموذجي في مقدِّمات مُلهِمة، وما كان لهذا أن يطرأ إلاّ بعد مخاضات شاقّة عسيرة من العرق والجوع والتضحيات، استغرقت عقوداً مديدة من الانتفاضات العارمة والجولات الضارية التي أنضجت جيل العبور.
أسفر صباح مُشرق على تخوم غزة عن مشهد لم تصدِّقه العيون بادئ الأمر، شوهد فيه أحفاد اللاجئين يتنزّهون بثبات فوق أرضهم التي احتُلّت سنة 1948م، ويرفعون رايتهم فوق قواعد جيش جبّار بعد دقائق من اقتحامها برشاقة، ومن تفاصيل المشهد أنّ الجندي الذي اعتاد إذلال الأهالي العُزّل شوهد وهو يَخِرّ جاثياً على ركبتيْه يطلب الرأفة بحاله والإبقاء على حياته، ستبقى هذه المشاهد محفورة في وعي أمّتها، وستنثر بذور الشكّ بجدوى مشروع الاحتلال والاستيطان عند جمهوره.
دشّن عبور السابع من أكتوبر عهداً جديداً في تفاعلات القيم والمعاني وثقافة الشعوب والجماهير عبر رقاع الأمّة في المشارق والمغارب، حتى إنّ الخيالات الخصبة ذاتها لم تجرؤ حتى حينه على مجرّد البوْح باحتمالية إنجاز ميداني كهذا أو بإحراز نصيفه، ولم تتهيّأ أذهان الجماهير العربية والمسلمة لاستيعاب مشهد العبور الفلسطيني في اللحظة التاريخية الدقيقة التي داهمتها فيها صور الانقلاب على الخبرة السابقة، وتدفّقت إليها المشاهد المحمولة من محيط قطاع غزة، فاستعصى على بعضها إدراكُ أنّ الحدث يجري هذه المرّة على الجانب الآخر من الأسوار العالية، وأنّ من يمسك بخطام جُند الاحتلال المجنّدة في القلاع المحصّنة هم شباب غزّة المُحاصَرة.
عرفت أجيال العرب والمسلمين مشاهد كهذه في أفلام الحركة الأمريكية وألعاب القتال الشبكية، لكنّ غزة دفعت بصناعتها الثقافية المرئية من الواقع المجرّب ومشاهده الملحميّة المصوّرة، لتفتك ببقايا ما استقرّ في الأذهان والوجدان من أثر الهزيمة المريرة على وعي الجماهير ولاوَعيها، يصحّ إيجاز الحكاية بأنّ غزّة صنعَت الفُلْك، وكلّما مرّ عليها ملأ من العاجزين سخروا منها، حتى جاء الطوفان.
إنّ آلة الحرب التي تعطّلت فجأة هي عيْنها التي تُجسِّد توازنات التفوّق التقني والتفاضل الأممي في عالمنا، على نحو جعل هيبة «الميركافا» نموذجاً لقوّة لا تُقهر هيْمنت في استعلائها على المنطقة ردحاً من الزمن، ثمّ امتدّت رمزيّات الميدان إلى مُجنّحات التدمير من قبيل «إف 35» أو مشاهد الالتقام الصاروخي التي ترسمها «القبّة الحديدية» أو «مقلاع داود» في صفحة السماء.
فتَكَ الاقتحام الجسور صباح السابع من أكتوبر بهذه الادعاءات، فانقشع سلطانها الذي هيْمن على الأذهان والوجدان بمجرّد أن شوهد فتية غزة المُحاصَرون وهم يرفعون راية التحرُّر فوق «الميركافا» الحصينة؛ التي أرهبت جيوش الإقليم عن آخرها، وتأكّد مفعول الحدث عندما أخفقت قبّة الصواريخ الاعتراضية عن حماية تجمّعات الاستيطان الإحلالي، وعندما سقطت أسطورة الانكشاف الاستخباري باتِّضاح عجْز عيون الاحتلال وآذانه عن رصد خطط الاقتحام وتحضيراته التي لا بدّ أنّها استغرقت سنوات من الإعداد والتهيُّؤ.
تعيّن على قاعدة الاحتلال الحربية الاستيطانية أن تشنّ حملتها المرتدّة في ميدان الصراع على الصورة والوعي/اللاوعي أيضاً، فانهمكت بعد لحظة الصدمة والذهول في محاولة طمس صورة الاقتحام العسكري الجسور الذي أنجزه شباب فلسطين، ودفعت بنوعيْن اثنين من الصور البديلة؛ أوّلهما زيّفته بأحابيل الدعاية المضلِّلة، من قبيل فرية المذابح الرهيبة بحقّ الأطفال والمدنيين التي حاولت إلصاقها بالمقاومة لتزييف الجوْهر العسكري للحدَث، وثانيهما صوَر مشهودة تصنعها آلاف الأطنان من ذخائر القتل والتدمير على مدار الساعة في قلب التجمّعات السكانية في القطاع؛ ابتغاء تلقين مجتمع الصمود الذي لا ينكسر دروسَ الألم والأوجاع، وكي ترهب به شعوب المنطقة بخيالها التي ترقب الحدث وتتفاعل معه؛ من مغبّة تجريب ما جرّبته غزة، لم تتأخّر حاملات الطائرات عن المشهد، فأبحرت سريعاً قرب سواحل الشام ومصر كي تقول للجميع: إنّ قاعدة الاحتلال المرتجفة مسنودة من بعيد، وإنّ من ركّبوها في المنطقة لن يدَعوها تتفكّك بين عشية وضُحاها، وهي رسالة تؤكِّد في جوهرها وقْع الزلزلة على صورة التفوّق الإستراتيجي التي نسجت خيوطَها لتسطو على وعي أجيال العرب والمسلمين ولاوعيهم.
اشتغل الاحتلال ومَن انزلقوا إلى خندقه الحربيّ والدِّعائيّ على جانبي الأطلسي، على إزاحة صورة «رامبو الفلسطيني» جانباّ، الذي هو كناية عن العربي/ المسلم و«العالمثالثي» بالأحرى، لإقصائه عن مشهد أخّاذ ظلّ مُحتكراً لجنود «جيش لا يُقهر» في السردية الدعائية المتشكِّلة عبر مخاضات نكبات 1948 و1967م، وقد أدرك القوْم فعالية الانتقال من حروب الأنظمة العاجزة؛ إلى صوْلات الشعوب الجَسورة التي تُفارق الصندوق وتكسر المعادلات.
لكنّ هذا الاستدراك الملفّق يبقى عاجزاً عن استعادة صورة أسطورية رُسِمت لجندي الاحتلال وجيْشه عبر ثلاثة أرباع قرن، أي منذ حملة التطهير العرقي في فلسطين؛ المعروفة بالنكبة. جرى في مسار آخر اشتغالٌ مكثّف على صورة دعائية موجّهة إلى شعوب العالم الغربي تبتغي «أنسنة» جيش الاحتلال، إلى درجة تأنيثه عبر إبراز المجنّدات في هيئة وديعة، وكأنّه منظمة خيرية أو جماعة حقوقية أو أنّ معسكرات الحرب ليست سوى جولة مُغامَرة ورحلة تخييم، بينما تُقدّم صورة القسوة الرادعة للعالم العربي؛ بأنّه جيش ذو سطوة لا يزهد بالفتك والتدمير.
نهض الإنسان الفلسطيني في غزة مارداً من الإرادة الجبّارة التي لا تنكسر؛ وإنْ سقطت الأبدان وتحطّم البنيان من حولها. تقترح غزّة من خلال تجربتها المشهودة، على أمّتها وعالمها، نهجاً مُغايراً في المسألة القيمية الحرجة؛ يقوم على ترسيخ القيَم في زمن الاضطراب، وتعزيز الصلابة في زمن السيولة، واستعادة المعاني في زمن العدمية، وهو نهجٌ مستقلّ عن خطاب غربي مُعَوْلم، فلغزّة تجربتها في تمكين المرأة وتحرّرها، وفي قوّة النساء، وفي الحقّ في الاختلاف في عالم متنوِّع، ما يؤكِّد أنّ هذا المنعطف التاريخي يتجاوز تطوُّرات الميدان إلى تفاعلات الوجدان والأذهان.. وما زال الاشتباك المعنوي في ذُرْوَته!