بعد استعراضنا في المقال السابق لاحتضان الأرض لأهلها المقاومين الفيتناميين في أنفاق “كو تشي” التي دوخت الأمريكان واضطرتهم للانسحاب مهزومين، نستعرض تجربة نفق الحياة ودوره في إنقاذ المقاومين البوسنيين من حصار الصرب.
بدأت حرب الصرب ضد البوسنة بداية شهر إبريل 1992، وخلال الأيام الأولى من الحرب استولى الصرب الذين يمتلكون إرث الجيش اليوغسلافي القوي على 70% من أراضي البوسنة، واحتلوا الجبال المحيطة بمدينة سراييفو، وأحكموا عليها الحصار من جهاتها الأربع، وسيطروا على سمائها، وبرغم ذلك قرر البوسنيون بقيادة “علي عزت بيجوفيتش” المقاومة والصمود، وامتد حصار المدينة لمدة 1400 يوما وهي تحت القصف الصربي المتواصل.
كان المعبر الوحيد للإمدادات الإنسانية هو مطار “سراييفو” الذي كان تحت سيطرة الأمم المتحدة، وكانت الأمم المتحدة تتحكم في أولويات وكمية ونوعية المواد الإغاثية لأهل “البوسنة” المحاصرين في “سراييفو”، وكانت الأمم المتحدة برئاسة “بطرس غالي” تطبق قرارها بحظر تصدير الأسلحة للبوسنة تطبيقا صارما.
ومع استمرار الحصار والقصف المتواصل من الصرب، واتساع جبهة القتال بدخول القوات الكرواتية من جهة “موستار”، مع استمرار المقاتلين البوسنيين في صمودهم وقتالهم، بدأت ذخيرتهم تنفد، وحاجتهم للسلاح تصبح أكثر إلحاحا، وحاجتهم للمستلزمات الطبية لمعالجة جرحاهم تزيد، فضلا عن شبه انعدام للوقود، ونقص حاد في الغذاء وحليب الأطفال، فكان لا بد من وجود مخرج من هذا الحصار يحفظ لهم خط الإمداد لاستمرار صمود الشعب، واستمرار الجنود في المقاومة.
وجاءت الفكرة في تنفيذ نفق يربط بين منطقتين تحت سيطرة المقاتلين البوسنيين، وهما منطقة “دوبرينيا”، ومنطقة “بوتمير”، ويمر تحت مطار “سراييفو”، بطول 800 متر وعرض نحو المتر وارتفاع حوالي متر ونصف، وبدأ تنفيذ النفق بتاريخ 22/12/1992، بعد أكثر من ثمانية أشهر من بدء الحصار، وتم الحفر في أجواء بالغة الصعوبة بأعمال حفر يدوية ومعدات بدائية، وبسرية تامة وسط حصار ومراقبة وقصف مستمر من عدو على بعد أمتار من المكان، وزاد من صعوبة العمل نقص الخشب اللازم لسد جوانب الحفر، وهو ما اضطرهم لاستخدام أغراضهم الشخصية من خزانات ملابس وأبواب، وكذلك ظهور المياه الجوفية وتحول أرضية النفق وجدرانه إلى أرض موحلة، وظلوا ينقلون المياه المتجمعة يدويا بالأوعية إلى أن تم توصيل الكهرباء واستخدام الشفاطات.
وبعد ثمانية أشهر من العمل المتواصل، التقى فريقا العمل العاملين في وقت متزامن من طرفي النفق، وتم إنجاز النفق بنجاح.
بعد عشرين عاما من انتهاء الحرب سافرتُ للبوسنة للوقوف على أسرار هذا الكفاح الفريد، وكان دليلي في الرحلة جنرالا سابقا في الجيش اليوغوسلافي، وأحد كبار الضباط الذين انضموا للمقاومة البوسنية مع بدايات الحرب، وبعد أن طاف بي على آثار الحرب في عدة مدن والتي كانت ماتزال قائمة، جاء يوم زيارة نفق الحياة، وفي طريقنا إلى النفق أخذني إلى جبل “إيجمان”، وهو جبل إستراتيجي يقع جنوب غرب “سراييفو”، وكان من أهم النقاط الحصينة التي حرص البوسنيون على ألا تقع تحت سيطرة الصرب، وبعد فترة من صعودنا الجبل توقف بي عند مسجد مبني من الخشب، توقفنا عنده ثم أخذ يشرح لي الأيام الصعاب التي قضاها المقاتلون مرابطين في هذا الجبل لحماية سراييفو، ثم انهمرت دموعه وهو يشرح لي كيف كان يودع بعضهم بعضا قبل الخروج في مهام قتالية بعد صلاتهم في المسجد، وأن العديد منهم لم يعد وتمت صلاة الغائب عليهم في هذا المسجد.
وحكى لي أصعب لحظات دفاعهم عن أماكنهم في الجبل، يوم أن أوشكت ذخيرتهم على النفاد -وعددهم قليل مقارنة بعدوهم- واحتياجهم للمدد لدعم صمودهم، ثم وصول الخبر بنجاح فتح النفق، وكان أول ما تم عبوره من النفق هو وحدة عسكرية بكامل عتادها، وتوجهت مباشرة إلى جبل إيجمان، كما تم نقل نحو عشرة أطنان من الأسلحة إلى “سراييفو” في أول يوم، وكان هذا هو بداية الغيث والغوث للجنود الصامدين، ومقدمة لنجاحهم في التحول من الدفاع للهجوم.
وصلنا أنا وهو إلى النفق، وسرت داخله واطلعتُ على آثاره المحفوظة في متحف يروي حكاية النفق الذي مثل شريان الحياة لشعب محاصَر، ومن خلاله تم تحديد أولويات الشعب المحاصر في الإمدادات بدلا من الاستسلام لقرارات الأمم المتحدة الظالمة، على جانبيه يوجد كابلات لنقل الكهرباء التي تم توليدها من محطة الطاقة على نهر “نرتفا”، وأنابيب أخرى لنقل الوقود، وآثار للزعيم القائد “علي عزت بيجوفيتش” الذي كان يتنقل خارج البوسنة من خلال هذا النفق ليوصل صوت شعبه للعالم، وما زال في المتحف المعدات اليدوية البدائية المستخدمة في الحفر، وعربات نقل الأغذية والأدوية، وشهادة تقدير لأصحاب البيت الذي تم حفر النفق تحته.
وهكذا؛ بعد أن تم إحكام الحصار، وتكالبَ الأعداء، وتخاذلَ الأصدقاء؛ وجد المقاومون الأرض تقاتل معهم، وأصبح باطنها حضنًا لهم، واللجوء لباطنها مخرجًا لهم، ودعوات الصالحين سهامًا في نحور أعدائهم.