بعث تدهور حكم الخلافة العثمانية ثم اضمحلالها وانتهاءً بسقوطها في مارس 1924م بمحفزات فكرية وسياسية مكثفة إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، فشحذ العقول للبحث عن أفكار لاستعادة الحكم الإسلامي المفقود، وأثار الحركات السياسية الإسلامية للسعي من أجل بعث النظام السياسي مرة أخرى إلى الحياة عبر النضال السياسي، وحفز سقوط الخلافة كثير من المفكرين والمثقفين إلى التأمل في أسباب السقوط وعوامله من ناحية، والسعي إلى التأطير نظرياً لتشييد نظام خلافة جديدة يتلافى أخطاء الماضي ويواكب متطلبات العصر ويوحد المسلمين الذين تشرذموا بفعل الصراعات الداخلية حيناً، والمؤامرات الاستعمارية أحياناً أخرى خلف راية حضارتهم المفقودة.
ورغم ثراء التجارب الفكرية التي غاصت في فهم وتحليل عوامل السقوط التي عايشتها الخلافة، ومحاولة السعي لتأسيس نظام خلافة جديدة على صعيد الاجتهادات الفكرية والتنظيرية، فإن كثيراً منها لم تحظ بالشهرة والذيوع والاطلاع، فقد أدار العرب والمسلمون ظهورهم منذ انتهاء ما يسمى بالحقبة الاستعمارية وظهور دول الاستقلال العربية والإسلامية لفكرة استعادة الخلافة، وأصبح التعامل الفكري والسياسي مع الدولة في شكلها القطري الذي ورثه المسلمون عن الغرب بمثابة أمر واقع، وهو ما فوّت على المسلمين فرصة ثمينة للاطلاع على تلك التأملات الفكرية والتنظيرات السياسية التي حاولت قدر جهدها استلهام قيم الخلافة واستعادتها بأساليب عصرية، ومن أهم تلك التجارب الفكرية التي لم تنل من التقدير والفهم والتأمل ما تستحقه، تجربة «أم القرى» لعبدالرحمن الكواكبي.
الكواكبي فيلسوف الاستبداد
فقد طغت شهرة كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبدالرحمن الكواكبي على تجربة فكرية مهمة خاضها فيلسوف الاستبداد قبل تجربة الطبائع، بل إن تجربة «أم القرى» تتسم بالشمولية بشكل أكبر مما اتسم به كتاب «الطبائع» الذي ركز فيه على تحميل سائر مشكلات العالم الإسلامي على عاتق الاستبداد السياسي، بينما عمدت تجربة «أم القرى» التي لم تكتف فحسب بحصر كافة الأسباب التي أسهمت في تخلف المسلمين وخفوت صوتهم بين الأمم واضمحلال حضارتهم، وحللت سائر العوامل التي أقعدت المسلمين عن النهوض مرة أخرى بعد تراجعهم وهزائمهم، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ فصاغ الكواكبي في مؤلفه «أم القرى» دستور عمل تنظيمياً سياسياً أراد به أن يقدم برنامجاً سياسياً عملياً للخطوات التي يجب اتباعها من أجل الشروع في استعادة النهضة الحضارية للمسلمين مرة أخرى -ومن أهم ركائزها الخلافة الإسلامية الضائعة- وأفول نجم المسلمين وتولية قبلتهم إزاء التخلف بعد أن كانوا مهد التحضر والرقي.
«أم القرى».. محاورات العلماء
يتمثل الثراء الفكري لتجربة الكواكبي في أصالته وتقدُميته، إذ عمد إلى تحليل أسباب سقوط الخلافة الإسلامية قبيل تحقق ذلك بأكثر من 20 عاماً، فلم يكد يبدأ القرن العشرون حتى استشعر الكواكبي بفكره الناقد ورؤيته الثاقبة بأفول نجم الخلافة الإسلامية في العهد العثماني، وهو ما صدق توقعاته بعد 20 عاماً حين سقطت الخلافة رسمياً، وهو ما عبر عنه في تلخيصه لأسباب فتور المسلمين وتأكيده أنه «يجب تدارك هذا الفتور سريعاً وإلا فتنحل عصبيتهم كُلياً»، وهي النبوءة التي تحققت وأثبتت مدى أصالة الكواكبي في استشعار مشكلات المسلمين ومحاولة البحث عن حلول ناجعة لها.
وهذه الأصالة والجدة التي اتسم بها الكواكبي قد ألقت بظلالها على مؤلفه «أم القرى» الذي تبنى فيه قالباً شديد الاستثنائية والتفرد، حيث عمد الكواكبي إلى تقديم رؤاه واجتهاداته بشأن أسباب التخلف الحضاري الإسلامي، وعوامل استنهاض الأمة الإسلامية، عبر محاورات تخيلية بين مجموعة من العلماء المسلمين اجتمعوا بشكل سري في مدينة مكة المكرمة (أم القرى)، ينوب كل منهم عن دولة من دول العالم الإسلامي ويتولى إدارة النقاش فيما بين الحاضرين وتسجيل اللقاءات السيد الفراتي، وهو كناية عن الكواكبي نفسه، ومن خلال عدد من اللقاءات المتوالية يناقش الكواكبي بصحبة العلماء أمور العالم الإسلامي في مشرقه ومغربه، أسباب تخلفه وعوامل ضعفه وفتور إرادة المسلمين، وإمكانات استنهاض المجد الحضاري للإسلام ووسائل بعثه من جديد.
إن المتأمل لصياغة المحاورات والقالب التخيلي الذي اختاره الكواكبي يوضح ما أراده من إثارة التساؤلات أكثر من تقديم الإجابات، إذ تبعث النقاشات التي نقلها إلينا الكواكبي عن تلك الاجتماعات على إعمال القارئ لفكره بشأن ما يثيره الكواكبي من أزمات تحتاج إلى تأمل وفهم عميقين، ومن ناحية ثانية يلفت الكواكبي النظر إلى ما لمكة المكرمة لديه من مكانة محورية؛ إذ اختارها كمقر لجمعيته السرية ولقاءاته التشاورية فيما بين العلماء باعتباره مهبط الوحي ومقراً سنوياً للحج.
جمعية تعليم الموحدين
ويتفرد الكواكبي في مؤلفه «أم القرى» فيما عبر عنه من عدم الارتكان إلى البكاء على المجد الضائع، أو الاكتفاء بالنقد الهدام لمآل المسلمين إلى تلك الحالة من الفتور والتخلف، بل عقد الكواكبي عزمه على استجماع أسباب النهوض من خلال برنامج عمل لا يتعالى على الواقع ولا ينفصل عن متطلبات العصر الذي عاشه، فقد رأى بأن الحل الأفضل هو ابتداءً عبر تشكيل جمعية تعليمية قانونية من علماء المسلمين الذين حضروا الاجتماع، مهمتها الرئيسة تثقيف المسلمين وتوعيتهم وإزالة غشاوات الجهل عن أعينهم وقلوبهم لاستنهاض همتهم واستعادة حضارتهم، فالجهل كان هو الداء الأساسي وأضر فروع الجهل لدى الكواكبي كان الجهل بالدين، ومن ثم فإن الطريق الأجدر سلوكاً هو تعليم الأجيال الناشئة بالدين والأخلاق والفضائل وحثهم على نهل العلوم والفنون والتأمل وتدقيق النظر بما يقوي عزيمتهم ويرفع شأن الأمة.
وقد تمكن الكواكبي رغم التأكيد على عمادة الدين كرافعة للنهضة الإسلامية، من الانفتاح على الحضارة الغربية، وما توصل إليه الغرب آنذاك في رأي الكواكبي من تقدم ونهضة تستدعي النظر والاستفادة من منجزاتها.
وبذلك عمد الكواكبي إلى صياغة رؤية إسلامية تتكئ على الإسلام ولا ترفض التعاطي مع الغرب كُلياً، بل اتسمت بالانفتاح والوسطية، وعملت على تخطي التخلف والرجعية ووجهت سهام النقد لما آلت إليه أحوال الدولة العثمانية من تدهور واضمحلال.
لكن الكواكبي بعد مؤلفه «أم القرى» أفصح عن ثاني تجاربه في التأليف وأشهرها في كتاب «طبائع الاستبداد»، وفي هذا الكتاب يبدو الكواكبي وقد بلور رؤية أكثر تركيزاً وأقل شمولية من مؤلف «أم القرى»، فبينما كان «أم القرى» قد وجه سهام النقد إلى الراعي والرعية باعتبارهما عاملين متساويين في التخلف والفتور، فإن «طبائع الاستبداد» قد ركز جُل جهده على نقد الاستبداد السياسي كأهم أسباب التأخر والتخلف، ذلك الاستبداد الذي كان سبباً في سعي الكواكبي لتشكيل جمعية سرية لاستنهاض عزيمة المسلمين، لكن فشل تلك الجمعية ثم سقوط الخلافة رسمياً ووقوع الدول المسلمة بين براثن الجهل والاستبداد من ناحية والاحتلال العسكري من ناحية ثانية قد أطبق على المسلمين فأسهم في تأخير تلك التجربة عمداً، وتسبب في محاصرة العلماء والمفكرين وقتل الاجتهاد والإبداع بما عطل محاولة النهضة المأمولة، ودفع الكواكبي إلى الانتقال من البناء إلى النقد، وبين هذا وذاك ظل حلم استعادة الخلافة الإسلامية مشروعاً فكرياً طي الكتب وأسيراً للتنظير الفكري لا يجد إلى التطبيق سبيلاً.