العدل خلق أصيل من أخلاق الإسلام أتى بصيغة الأمر في كتاب الله عز وجل فقال سبحانه: (إنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء 58)، وغياب العدل لا يؤثر فقط بشكل فردي على المجتمع المسلم، وإنما يقوض أركان المجتمع ويهدد بقاءه، فحين تضيع الحقوق بين الناس يلجأ المظلوم لأخذ حقه خارج إطار القوانين والنظم التي تحكم المجتمعات فتهدد أمانه ووجوده وتستحيل الحياة به لغابة تحكمها القوة دون مجموعة القيم الإنسانية المعروفة، وغياب العدل عن المجتمع يولد الضغائن والأحقاد والصراعات والنزاعات.
ولذلك، فقد تميز خلق العدل بالأمر الرباني المباشر، كما مر بنا، كي تستقيم المجتمعات المسلمة وتحيا بسلام وتفرغ لمهامها العظمى.
والعدل هو استعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها من غير سرف ولا تقصير ولا تأخير.
ونشر العدل سبب من أسباب نزول الوحي على أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه، فيقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد 25)، وقد رغب القرآن الكريم في العدل في جملة من الآيات الكريمة، فيقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم القضاة من ظلم الناس والحكم بغير العدل، فعن عبدالله بن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة؛ واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (رواه أبو داود).
من صور العدل في الإسلام
1– عدل الوالي أو الحاكم:
عن معقل بن يسار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة» (وراه البخاري ومسلم)، والوالي أو الحاكم سواء كانت ولايته خاصة أو عامة يجب عليه أن يعدل بين الرعية، وأن يستعين بأهل العدل كالوزراء والمسؤولين والمعنيين بالتعامل مع البسطاء وحقوقهم.
يقول ابن تيمية بعد ذكره عموم الولايات وخصوصها كولاية القضاء وولاية الحرب والحسبة وولاية المال: «وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية، فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين، وأي مَن ظلم وعمل فيها بجهل فو من الفجار الظالمين».
وجعل ابن خلدون في مقدمته فصلاً بعنوان «الظلم مؤذن بخراب العمران»، بيّن فيه خطورة الحياد عن العدل على الأمة وسقوط الدول وزوال الحضارات.
وعن أبي هرَيرةَ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادِلُ..» (أخرجه البخاري).
2- العدل في الحكم بين الناس:
ويأمر الشرع كل مسؤول بالعدل بين الناس سواء كانوا قضاة أو مسؤولين أو مصلحين بينهم، وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه فيقول تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ).
وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين حاول أحد الصحابة أن يشفع لامرأة سرقت فيعفيها من إقامة الحد على طائفة دون طائفة لمجرد مكانتها في المجتمع، وقد أوضح ذلك في حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ حينما أراد أن يشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتَشْفَعُ في حَدٍّ من حُدُود اللّه تعالى؟»، ثم قام، فاخْتَطَبَ، ثم قال: «إِنَّما أَهْلَكَ الذين مِنْ قَبْلِكم أَنَّهم كانوا إِذا سَرَقَ فيهم الشَّرِيفُ تَرَكُوه، وإِذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فاطمةَ بِنْتَ محمدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها» (متفق عليه).
3- العدل مع الزوجة أو بين الزوجات:
ومن الأزواج من يظلم زوجته وإن كانت واحدة لا زوجة أخرى معها، فالعدل هنا غير مرهون بوجود زوجة أخرى ليعدل بينهما، وعليه أن يعدل مع زوجته في النفقة والسكن والمبيت وإلا فقَدَ قوامته عليها وبالتالي خسر حقوقه لديها فيقول تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) (النساء: 3)، وأما العدل القلبي فلا قدرة لأحد عليه، ولذلك فلا يدخل في المساواة، ومع ذلك يستتبعه أمر بعدم الميل الشديد فيذر الأخرى كالمعلقة دون زوج فيقول تعالى: (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) (النساء: 129).
4- العدل بين الأبناء:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (رواه البخاري)، ويكون العدل بين الأولاد في العطية والهبة والوقف والتسوية بينهم حتى في القبلات، فعن إبراهيم النخعي قال: «كانوا يستحبون أن يعدل الرجل بين ولده حتى في القُبَل».
5- العدل في القول:
والعدل في القول له مظاهر كثيرة، منها الشهادة، على سبيل المثال، فلا يشهد زوراً، ولا يتحدث بباطل، ولا يجامل في الحق أقرب الناس إليه أو حتى نفسه، فيقول تعالى: (إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام: 152)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) (النساء: 135).
6- العدل في الكيل والميزان:
قال تعالى: (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) (الأنعام: 152)، وتوعد الله عز وجل المتقاعسين عن تحقيق توفية الميزان والبعد عن الظلم فيه فقال تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين)، وقد أهلكت أمة كاملة لتطفيفها الكيل والميزان، يقول ابن كثير: المراد بالتطفيف ها هنا البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم.
7- العدل مع الآخر (غير المسلمين):
ولم يتجاوز القرآن الكريم فكرة التعامل مع الآخر والعدل معه طالما أنه لم يدخل في زمرة المحاربين للدولة الإسلامية، فيقول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، والقيام بالعدل مع غير المسلمين في أرض الإسلام وتحت حكمهم هو أدعى لتحبيب الخلق في دين الله وحملهم على معرفته بشكل جيد وربما تكون سبباً في إسلامه.
هذا باختصار صور العدل في الإسلام التي يجب أن يتسم كل مسلم بها في حدود اختصاصاته الفردية والمجتمعية، فمن لم يكن حاكماً أو محكماً بين الناس أو مصلحاً، فهو إما أب، أو مسؤول بصورة ما، أو متحدثاً أو كاتباً، فكل مسلم معرض لموقف ما سوف يحتم عليه أن يختار بين العدل والجور، وحسابه في نهاية الأمر على اختياره من الله عز وجل.