لعل القارئ الكريم قد أصابته الدهشة من العنوان، حيث إن أغلب العناوين تتحدث عن انتصارات المسلمين في رمضان، ثم تؤكد ذلك من خلال الاستدلال بعشرات المعارك عبر التاريخ، فقد خاض المسلمون معارك كثيرة في رمضان، وتغلبوا فيها على أعدائهم.
وإن المتدبر في الأسباب التي أدت إلى تلك الانتصارات، يجد أنها تتمثل في القوة الإيمانية والإرادة الإنسانية والعزيمة الجهادية والفاعلية العسكرية والفطنة السياسية.. فهذه مظاهر البناء والتأهيل للشخصية المسلمة، التي تستحق التأييد والانتصار.
أما إذا تخلى المسلمون عن هذه الأسباب، وراحوا يبحثون عن الأمجاد الشخصية أو الغنائم الدنيوية فإنهم يقعون فريسة لعدوهم، ويفقدون ما حصّلوه من العزة والكرامة عبر تاريخهم المجيد.
وإننا إذ نقف على بعض الأحداث التي هُزِم فيها المسلمون؛ فليس هذا من باب إشاعة الهزيمة النفسية أو البحث عن مثالب الأمة الإسلامية، كما أنه ليس من باب الأكاذيب التاريخية، بل إنه الواقع الحقيقي، الذي تحدثنا عنه المصادر المعتبرة.
والهدف من الكتابة في هذا الموضوع رصد الأسباب التي أدت إلى تلك الهزائم، ومعرفة النتائج المترتبة عليها، والكشف عن الخطوات العلاجية التي اتخذوها، وهذا كله بقصد إحياء الأمة الإسلامية من جديد، من خلال الوقوف على العلل المتغلغلة فيها والعلم بالدواء المناسب لها.
أولاً: معركة بلاط الشهداء:
في أوائل رمضان 114هـ/ أواخر أكتوبر 732م، وعلى مقربة من مدينة «بواتييه» الفرنسية، التقى جيش المسلمين، بقيادة والي الأندلس عبدالرحمن الغافقي، بجيش الفرنجة بقيادة شارل مارتل، ودارت بين الجيشين معركة كبرى، امتدت 7 أيام أو 8، احتفظ فيها كل فريق بمراكزه، وفي اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة، فاقتتلا بشدة، حتى دخول الليل، واستأنفا القتال في اليوم التالي، وأبدى كلاهما منتهى الشجاعة والجلد، حتى بدا الإعياء على الفرنج، ولاح النصر في جانب المسلمين.
ولكن حدث، عندئذ، أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامي، فارتفعت بعض الصيحات بين المسلمين بأن معسكر الغنائم سوف يقع في يد العدو؛ فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمهم، فدب الخلل إلى صفوف المسلمين.
وحاول عبدالرحمن الغافقي أن يعيد النظام وأن يهدئ روع الجند، وبينما هو يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى بحياته، فسقط شهيداً من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامي، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين، وكثر القتل في صفوفهم، ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، فانتهزوا فرصة حلول الظلام، وتسللوا متراجعين على عجل(1).
والناظر في هذه المعركة يجد أن الهزيمة كانت بسبب الغنائم التي جمعها المسلمون أثناء زحفهم من المدن التي مروا بها قبل المعركة الفاصلة، فالمراجع متفقة على أن الجيش الإسلامي كان يجر قوافل محملة بالغنائم والأسلاب من كل صنف، وكان تعلق الجند بهذه الغنائم كبيراً؛ لأنهم حملوها معهم حتى نهر اللوار(2).
إن الهزيمة التي أحاطت بالمسلمين في تلك المعركة تشهد أن القتال في الإسلام يجب أن يكون لله وحده، وأن الجهاد وحب الدنيا وغنائمها لا يلتقيان، فكأني بالمقاتلين في «بلاط الشهداء» لم يتعظوا بما جرى في غزوة «أُحد»، التي خالف فيها بعض الصحابة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يلتزموا مكانهم على جبل «أُحد»، لكنهم ما إن رأوا الغنائم إلا وأقبلوا عليها، بعد أن تعلقت قلوبهم بها، ففتحوا بنزولهم إليها ثغرة الانكسار، التي تسلل العدو منها، وأعمل سيفه في صفوف المسلمين.
وقد جاء القرآن الكريم معالجاً تلك النزعات النفسية والتحركات السلوكية، بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 152)، ففي الآية الكريمة ما يؤكد أن الصفات التي أدت إلى انكسار المسلمين هي: الفشل والتنازع والعصيان والالتفات إلى الدنيا، وهي صفات لا يحبها الله، فلا ينبغي أن يتصف بها المجاهد في سبيل الله، فإن وقع فيها؛ فلن يكون النصر حليفه، وتلك سُنة الله تعالى في عباده المجاهدين، وهي سُنة لا تتغير ولا تحابي أحداً، حتى وإن وقع ذلك للصحابة الكرام وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: حصار فيينا ومعركة «ألمان داغي»:
في 20 رمضان 1094هـ، وعلى أسوار مدينة فيينا عاصمة النمسا الحالية، وقعت معركة «ألمان داغي» بقيادة ملك بولندا يوحنا الثالث ضد جيش الدولة العثمانية بقيادة الصدر الأعظم (الوزير) قرة مصطفى باشا، قائد القوات العثمانية.
وكان العدد الإجمالي للجيش العثماني 162 ألف جندي، وتم تقسيمهم إلى فريقين، بحيث يكون 62 ألفاً في حصار أسوار المدينة، و100 ألف منتشرين في المنطقة لمنع الإمدادات الأوروبية من الوصول، ومع شدة الحصار أوشك العثمانيون على فتح المدينة، لكن الدول الأوروبية تداعت بأقصى سرعة لنجدة فيينا من السقوط، وبالفعل تحركت الجيوش الأوروبية بأقصى سرعة ممكنة.
وكان قره مصطفى قد وضع قوة عثمانية كبيرة يقودها أمير القرم مراد كراي عند جسر «الدونه»، وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى فيينا من ناحية الغرب ليمنع تقدم الأوروبيين، وأمر كراي بنسف الجسر إذا اقتضت الضرورة.
وهنا حدث ما لم يكن في حسبان أحد لا من العثمانيين ولا من الأوروبيين، إذ قام كراي بخيانة عظمى للإسلام والمسلمين وذلك بأنه سمح للأوروبيين بالعبور من الجسر دون قتال، وذلك بسبب كراهيته وعداوته لقره مصطفى، ثم حدثت خيانة عظمى أخرى من جانب أوغلو إبراهيم، قائد ميمنة الجيش العثماني إذ انسحب من القتال، بسبب خلافات مع قائد الجيش، وكان لهذا الانسحاب الأثر الأكبر في هزيمة العثمانيين(3).
إن الناظر في هذه المعركة التي انتهت بهزيمة الجيش العثماني الذي كان يمتلك القوة العددية والعسكرية، يجد أن السبب في تلك الهزيمة هو الخيانة، التي ظهرت بسبب خلافات شخصية أو لمجرد كراهية أحدهم أن يحقق الانتصار جزءاً من بناء المجد لغيره، إنها النفوس المريضة التي استطاعت أن تتوغل بين المجاهدين، وتكون سبباً في أذيتهم وقتلهم.
والخلاصة أن قانون الله تعالى في نصر المسلمين قائم على إعداد المستطاع من القوة العسكرية، مع الإعداد الكامل للقوة الإيمانية الخالصة لله وحده، دون أن تشوبها مطامع الغنيمة أو أهواء النفس، فإذا تخلف هذا القانون؛ كانت الهزيمة هي الواقع الذي لا مفر منه.
___________________________
(1) دولة الإسلام في الأندلس: محمد عبد الله عنان (1/ 101).
(2) عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي: شوقي أبو خليل، ص98-99.
(3) سلاطين الدولة العثمانية: صالح كولن، ص193.