ترجع أهمية هذا الكتاب مرجعاً مهماً عن أهمية الإسلام وتأثيره على الحضارة الغربية منذ بدايتها، بالرغم من أنه يغفل نقاطاً كثيرة مثل دور الحضارة الأندلسية كحجر أساس في الحضارة الغربية، وذلك لأسباب أرجعها إلى تأثره بفكره كمستشرق يصف الفتح الإسلامي بمصطلحات من وجهة النظر الأخرى كمصطلح الغزو العربي أو الإسلامي لأوروبا؛ مما ينبئ بتأثره بعدم حياديته بشكل كامل، رغم ادعائه ذلك الأمر في سطور كتابه.
ويجب على القارئ رغم أهمية الكتاب عدم إغفال تلك النقطة حتى يستطيع التمييز بين الفكرة المتجردة والفكر الذي يحمل خلفيات أخرى، كذلك يوضح الكتاب تفكير وفهم المستشرق الغربي نحو التاريخ الإسلامي والفتوحات والتوسعات الإسلامية في أوروبا ومقارنتها بالحروب المقدسة في المسيحية، ويتكون الكتاب من 6 فصول تتكون من 131 صفحة، وكانت الطبعة الأولى منه في عام 1403هـ/ 1982 م للناشر: مكتبة مدبولي
المحطة الأولى: المسلمون في أوروبا:
يعرض الملف لمسألة الوجود الإسلامي في أوروبا باعتباره أحد المتخصصين في التاريخ الإسلامي الذين اعترفوا بالتأثير الإيجابي الكبير للإسلام كفكرة ودين على الحضارة الأوروبية الحديثة، وقد بدأ ذلك بداية من التواجد الإسلامي في الأندلس وصقلية منذ عام 710م، وفي عام 756م استطاع الأمير عبدالرحمن الداخل أن يحيل الأندلس من مجرد إمارة تابعة للحكم العربي الإسلامي إلى دولة مستقلة عاصمتها قرطبة وليكون أول أمير لها، وكانت حدود الدولة الوليدة سرقسطة وطليطلة وماردة، وتوالى الحكام على حكم الأندلس لتمر بفترات قوة واستحواذ فتبلغ أوجها 912 – 961م في عهد عبدالرحمن الثالث، وبعد وفاة ابن المنصور عام 1008م بدأ الحكم الأموي في التفكك في الأندلس، وبدأ في 1031م عصر ملوك الطوائف، ثم أتت على الأندلس فترة قوة أخرى في حكم ما يعرف بدولة الموحدين، وقد حكمت الأندلس حتى عام 1223م، حتى ضعفت دولة الموحدين وتمكنت ممالك المسيحيين من الزحف سعياً نحو ممتلكاتها، وقد احتفظت غرناطة حتى عام 1492م.
دخل المسلمون نابولي عام 837م وبعض مدن بحر الأدرياتيك وهددوا روما، وظل البابا يوحنا الثامن (872 – 882م) يدفع الجزية للمسلمين لمدة عامين، وفي عهد الفاطميين أصبحت صقلية ولاية فاطمية، ويعرض الكاتب لفكرة الفتوحات الإسلامية ويقارن بينها وبين الغزو القبلي والإغارة للقبائل بعضها بعضاً في الجزيرة العربية، وأن العرب استبدلوا فكرة الإغارة بالجهاد لتوجيه الرغبة في القتال نحو هدف أكبر أصبح اسمه الجهاد، ويحاول الملف الإشارة لتلك الفكرة بخبث ربما لا يلاحظه القارئ صاحب النوايا الطيبة.
يعرض كذلك المستشرق لفكرة الشرائع الأخرى من وجهة نظر الإسلام بشكل خاطئ، فقد أشار في صفحة (15) أن الإسلام ينظر إليها كأديان توحيد، وأن الغرض من الجهاد ليس تحويلهم عن دياناتهم، وإنما إخضاعهم للحكم الإسلامي، ووصف كذلك عبور جبل طارق إلى الأندلس بأنه لا يخلو من رغبة توسعية واستمرار لفكرة الإغارة وحب الغنيمة.
أما بالنسبة لأثر التواجد الإسلامي في الأندلس وصقلية على أوروبا، فيعرض المؤرخ الإنجليزي كيف أن أوروبا تعاملت بكراهية وخوف من الإسلام وقابلته بالعداء وظل الحرب عليه تحت شعار الصليب، حتى استطاعت أن تواجهه وتخرجه من الأندلس، مستغلة ضعف دولة الحكم في قصر الحمراء والتعامل بوحشية مع المسلمين في أوروبا عامة والأندلس خاصة.
المحطة الثانية: التجارة والتكنولوجيا:
لم يتوقف الأمر على الانتقال الثقافي من الأندلس إلى البلاد الواقعة تحت حكم المسلمين، وإنما أثر الانتقال التجاري لسلع ومنتجات المسلمين على ثقافة الغير في أوروبا حتى تلك البعيدة عن مناطق نفوذ حكمهم، ويذكر المؤلف أن التجارة في الدولة المسلمة تأثرت بتجار مكة التي كانت مركزاً للتجارة قبل الإسلام، فصار المسلمون تجاراً ناجحين باعتبار أن معظم الفاتحين كانوا من مكة والمدينة، وهي أقرب للحضر من البادية التي كان أهلها مجرد رعاة للإبل.
وكان لنشاط التجارة دور في نشر الإسلام كعقيدة لبلاد كثيرة في أفريقيا، وبعد الفتح الإسلامي للأندلس قامت على الفور علاقات تجارية قوية بين المسلمين في البلاد العربية وغيرهم في أوروبا خاصة خلال حكم الدولة الفاطمية لتونس ومصر، وقد احتاجت الدولة الفاطمية لشراء الأخشاب والحديد من إيطاليا لصناعة السفن، فأقامت العلاقات التجارية بين الغرب الأوروبي والدولة الفاطمية، وقد تشابه وضع أوروبا وقتها بوضع بلاد المسلمين اليوم، فقد كانت أوروبا مجرد سوق استهلاكية لمنتجات الدولة المسلمة؛ أي أن المسلمين كانوا يقومون بتصدير السلع الاستهلاكية في حين تصدر أوروبا المواد الخام والعبيد للبلاد الإسلامية ليعاد تصنيعها هناك.
لم يستطع الكاتب أن ينكر التأثير الإسلامي المباشر للمسلمين على اتساع معارف الأوروبيين جغرافياً، ورصد جهود الإدريسي (1100 – 1166م) في تعريف العالم وقتها بالخريطة التي استطاع رسمها بناء على رحلات موسعة قام بها، وما قد حصله من معارف 70 خريطة وكتاباً يحوي وصفاً لها.
ويتطرق الكاتب لموضوع الزراعة والتأثير العربي المباشر على أوروبا، فتوجد حتى يومنا هذا مصطلحات زراعية أوروبية مأخوذة من ألفاظ عربية خالصة مثل الساقية والبركة والخزان والقنطرة والطنبور، كما أدخلت في الأندلس زراعات كقصب السكر والأرز والليمون والقطن، وهي تحتاج لنظام ري دائم، وهذا النظام ابتكره العرب المسلمون في الزراعة.
المحطة الثالثة إنجازات العرب في ميادين العلم والفلسفة:
يحاول الباحث في هذه المحطة أن يُنصف المسلمين ويحسن وجه بعض المستشرقين الآخرين حين حاولوا التحقير من شأن العرب وأرجعوا العلوم العربية لعلوم إغريقية ترجمها علماء العرب وطوروها ليس أكثر، فيعترف بأن العرب قد حققوا بالفعل إنجازات رائعة في ميدان العلوم، وبأنهم أسسوا الحساب المستخدم في الحياة اليومية، كما وضعوا أسس الهندسة التحليلية.
وهنا يمكنني أن أرد على المستشرقين في هذه النقطة بالذات؛ بأنه إذا كانت تلك العلوم موجودة عند اليونان منذ البداية فلماذا لم تقم أوروبا بتطويرها وقبعت في العصور المظلمة فترات طويلة حتى استطاعت النهضة مستخدمة العلوم العربية المأخوذة من المكتبات الأندلسية؟! لماذا انتظرت تطوير العرب لها ولم تقم هي بنفس الدور لتبدأ نهضتها مبكراً؟! إن هذا يدل على كذبهم وسبق العلوم العربية في عصور الإسلام.
وأشار الملف للعالم الخوارزمي وتأثير علومه ومكتشفاته في الرياضة والفلك على العلوم الأوروبية فيما بعد، وقد اشتغل الخوارزمي في بيت الحكمة أثناء عهد الخليفة المأمون، ويعتبر أحد كتبه الرياضية أساساً لعلم الجبر، ويشير كذلك لابن الهيثم، غير أنه يدعي أنه استوعب كافة ملفات الإغريق، غير أنه مضى قدماً لحل مسائل لم يحلوها.
ويشير كذلك لمعارضته لنظرية إقليدس، وبطليموس القائلة بأن الأشعة تنتقل من العين إلى المبصرات، في حين يذهب ابن الهيثم إلى أن الضوء ينتقل من المبصرات إلى العين.
وأما في عالم الطب، فقد تطور الأمر لإنشاء عدد من المستشفيات في عهد هارون الرشيد في بغداد، وتم توظيف الأطباء والمسعفين بها في مقابل أجر رسمي، ومر الأطباء على السجون بصفة دورية للكشف على مرضاها، كما كانوا يزورون الأمصار والأرياف للكشف وصرف الدواء على المرضى خارج بغداد العاصمة.
وتطورت الكيمياء في بلاد العرب، فهناك الرازي، وابن سينا، والبيروني (ت 1048م)، الذي اكتشف إمكان تحويل العناصر، وقد قام بدقة بقياس الثقل النوعي لمواد عديدة.
المحطة الرابعة: استعادة المسيحيين للأندلس والحروب الصليبية:
في عهد عبدالرحمن الثالث، كان قد أقسم القادة المسيحيون قسم الولاء لعبدالرحمن وقطعوا على أنفسهم دفع الجزية، لكنهم ظلوا حاملي السلاح في انتظار قنص أي فرصة للخروج على الحكم الإسلامي، وبالوقت بدأت مدن الأندلس في التفكك والاستقلال ومن ثم الضعف؛ مما شجع الممالك المسيحية على الاستيلاء على طليطلة في عام 1085م، وما ساهم في وقف التوسعات المسيحية كان تدخل دولة الموحدين الذي أجّل تلك التوسعات لمدة قرنين من الزمان، وفي عام 1230م نجح فرديناند الثالث في احتلال قرطبة ثم أشبيلية، حتى سقطت غرناطة في عام 1492م.
ويتطرق الكاتب لفكرة نشوء فكرة الحروب الصليبية على المسلمين، وبأن نشأتها الشمال الفرنسي معبرة عن محاولة إخضاع العالم لاعتناق المسيحية، وقد تبلورت هذه الفكرة (فكرة الحرب المقدسة) بفضل سياسة البابوات المصلحين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي بدءاً بالبابا ليو التاسع (1049 – 1054م)، فأعطى صلاحية موسعة للحكم الكنسي وحق الكنيسة في إصدار الحكام بصدد شؤونها والهيمنة عليها، فعنيت الكنيسة بفض الاشتباكات الداخلية فيما بينها وتوجيه طاقة العداء والحروب نحو الكافرين من وجه نظرها (المسلمين)، ونحو خصومها في الداخل، واستطاعت الكنيسة أن تشوه صورة الإسلام في أوروبا وتمكنت تلك الفكرة حتى يومنا هذا.
المحطة الخامسة: الإسلام والوعي الأوروبي:
يبدأ الكاتب هذه المحطة بالدور اليهودي المشبوه في تشويه صورة الإسلام في أوروبا، وذلك عن طريق المترجم اليهودي بدرو دو ألفونسو، وهو يهودي متنصر في بداية القرن الثاني عشر الميلادي في إحدى محاوراته لموضوع الطعن في الإسلام، إلى جانب بعض الترجمات الأخرى التي نقلت الإسلام بشكل مشوّه وصوّرت العرب بأنهم يعبدون نبيهم، وأنه دين عنف ويطلق العنان للشهوات، وأن محمداً هو المسيح الدجال!
وتكونت تلك الصورة للإسلام في أوروبا ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وحاولت الكنيسة الرجوع للتراث الإغريقي القديم لإحيائه في محاولة لمواجهة الإسلام الذي عرفه الغرب عن طريق الأندلس، وكان من الصعب التشكيك فيه أو تشويهه، وأما في فترة النهضة الأوروبية الأولى وثورة الناس على الكنيسة ورفضها جملة، فقد ربطوا بين الإسلام كدين والكنيسة ليضعوهما موضعاً واحداً؛ وهو موضع التشكيك والتشويه بالعنف والتعارض مع العلم وتفضيل الإبداع البشري خارج إطار الدين جملة بكل مسمياته كنسياً أو إسلامياً باعتباره من مصدر سماوي واحد، فعارض الأوروبي بل وعادى الدين كله المسيحي والإسلامي.
ويختم الملف كتابه بأن تأثير الإسلام في العالم المسيحي الغربي هو أضخم مما يظن عادة، فلم يقتصر دور الإسلام على تعريف أوروبا الغربية بالكثير من منتجاته المادية واكتشافاته التكنولوجية، بل إنه دفع أوروبا إلى تكوين صورة جديدة لذاتها، وقد أدت الحروب الصليبية إلى تهوينهم من شأن أثر المسلمين في حضارتهم.
والكتاب وإن كان يحمل عنواناً ومضامين ظاهرها في صالح التاريخ الإسلامي الناصع، فإن شخصية الكاتب وربما دور المستشرق الخفي قد ترك سُماً في العسل الذي قدمه؛ مما يترك تساؤلات كثيرة حول ماهية تلك الكتب والغرض الخفي من ورائها، ويدفعنا للانتباه لمواجهة تلك المعارف والعلوم خاصة ما يتصل بالجانب التاريخي منها لمواجهتها وفضحها أمام الدارسين خاصة الشباب منهم.
_________________
(*) وليام مونتغمري واط، مستشرق بريطاني عمل أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي في جامعة إدنبرة في إدنبرة بإسكتلندا، من أشهر كتبه كتاب «محمد في مكة»، وكتاب «محمد في المدينة» من إصدارات جامعة إدنبرة.
وقد نقل الكتاب إلى العربية حسين أحمد أمين (1939 – 2014م)، وهو كاتب ومفكر ودبلوماسي مصري، أشهر ما كتب «دليل المسلم الحزين» الذي يشرح حال المسلم اليوم الذي بدأت ثقته تتزعزع بنفسه وبدينه؛ إذ يرى الغرب غير المسلم يتقدم ويتطور في حين يصعب على المسلم مجاراة ذلك التطور فأضحى مسلماً حزيناً.