لما جاءت سنوات القحط على أهل مصر، كان يوسف عليه السلام على خزائن الأرض، وكان هو الذي يبيع الطعام لكل أهل مصر ومن حولهم، ومع هذا كان لا يتناول الطعام لفترة طويلة حتى يشتد عليه الجوع، قال الإمام القرطبي: «وَيُرْوَى أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام كَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ فِي تِلْكَ السِّنِينَ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَجُوعُ وَبِيَدِكَ خَزَائِنُ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أَنْسَى الْجَائِعَ»(1).
ولقد كان من أهداف الصيام أنه يساعد على التكافل الاجتماعي بين الناس، وذلك أن الغني إذا شعر بالجوع فإنه يتذكر الجوعى الذين لا يجدون ما يسد جوعتهم، بل إن الصائم يجوع فإذا غربت الشمس تناول من الطعام ما يسد جوعه، بل ربما منهم من يتخم بالطعام من كثرته، فأما الفقير فربما ظل جائعًا باليومين والثلاثة ولا يجد طعامًا يشبع منه، ومن هنا حثنا الإسلام أن نبحث عن الفقير الجائع لنوصل له لقمة الخبز التي تشبعه.
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاهتمام بإطعام الطعام في رمضان ما يبين الاهتمام الأكبر بمعرفة الفقير وإطعامه، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ، لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنْ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»(2).
فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إطعام الطعام أول شيء بعد السلام والتعارف، بل وقدمه على صلاة الليل وصلة الأرحام، فهو من أهم أسباب دخول الجنة، فإذا كان ذلك على العموم، فكيف به في رمضان شهر الصوم؟! وهو الشهر الذي يذكرنا بالجوعى من المسلمين، والعجيب أن الله تعالى يجعل الفدية على من لم يستطع الصوم، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) (البقرة: 184)، ولقد حث النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الإطعام في صور شتى، وفي أحاديث كثيرة منها عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ..»(3).
وحثه صلى الله عليه وسلم على إفطار الصائم، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا»(4).
ثم أوجب عليه الصلاة والسلام فطرة الصائم، وما تسمى بزكاة الفطر في نهاية الشهر، عَنْ عَبْدِ الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا من شعير»(5)، كل هذا لأهمية إغناء الفقير وإطعام الجائع.
حصار غزة وموت أهلها جوعاً
تتعرض غزة الفلسطينية منذ أكثر من ستة أشهر لحصار دولي ظالم باغٍ، وللأسف يتم ذلك بمشاركة الدول العربية والإسلامية، حتى وصل الأمر بهم لأن أكلوا ورق الشجر وعلف الدواب، بل مات بعض أطفالهم جوعًا وعطشًا، فهم لا يجدون حتى الماء الصالح يشربونه، بعدما قصف الأعداء كل منابع مياههم، ويستمر الحصار برًا وبحرًا وجوًا، ويزداد الأمر سوءًا يومًا بعد يوم؛ وهذا مما يجعل المسلم الصادق لا يهنأ بطعام ولا بشراب، وكيف يهنأ وإخوانه في العقيدة يبادون إبادة جماعية بالجوع، بل يجعله دائم التفكير في كيفية فك الحصار وإيصال المساعدات وإطعام الجوعى، فهذا واجب على كل مسلم، وفرض عين على كل فرد في الأمَّة.
حكم من يشارك في حصار المسلمين
إن المشاركة في حصار المسلمين جرم عظيم تُحَرِّمُه كلُّ الشرائع السماوية، والأعراف والتقاليد الإنسانية، وكذا المواثيق الدولية، وكل من يشارك فيه فهو مجرم يستحق العقاب في الدنيا والآخرة، بل إن من يشارك فيه يكون قد والى اليهود وأعانهم على إخوانه المسلمين، وهذا جرم أشَدُّ، وقد يخرج من ملة الإسلام لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51)، فليحذر المسلم على دينه وليبرأ من هذا الحصار الآثم، وليعمل جاهداً بقدر استطاعته لفك هذا الحصار وإيصال الطعام والشراب لإخوانه المسلمين المرابطين في سبيل الله تعالى.
واجب المسلم نحو أهل غزة
أهل غزة يدافعون عن شرف الأمَّة وكرامتها، ويجاهدون لتحرير مقدسات الأمَّة وأرضها، ويقفون أمام العالم الكافر صامدين ثابتين، بذلوا في سبيل ذلك كل غال ورخيص، وكل نفس ونفيس، وابتلوا في سبيل ذلك بأن فقدوا كل شيء من مال ومتاع ومنازل، فضلاً عن فقْد الأطفال والنساء والآباء والأمهات، واليوم يتضورون جوعًا، وتمارس عليهم أقسى أنواع الإبادة الجماعية بالتجويع حتى الموت.
وهنا، فإن واجبنا تجاههم عظيم، كل حسب استطاعته، من عمل المستحيل لوصول الطعام والشراب لهم، ومن إحياء قصتهم في كل محفل وعلى كل منبر، ومن إمدادهم بما يحتاجون إليه من مال، ومن التظاهر والتجمهر ضغطًا على الحكومات لتقوم ولو بشيء من واجبها نحوهم، من فتح المعابر ووصول المساعدات لهم، ومن استطاع الوصول إليهم والوقوف بخندقهم فهذا شرف عظيم له.
كما لا ننسى أهمية المقاطعة لكل الداعمين للكيان الصهيوني المجرم، هذا فضلًا عن الدعاء والدعاء الدائم لإخواننا في فلسطين عامَّة وغزة خاصَّة، والتضرع إلى الله في السحر، وعند الفطر، وعقب الصلوات وغيرها من الأوقات، أن ينصرهم الله على عدوهم، وأن يرفع الغمة عنهم.
وقضية أخرى لا تغيب عن الأذهان أبدًا؛ وهي قضية الوعي اللازم للأمة، وبما لا بد أن تعيه وتكون عليه، من فهم طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، كي تستفيق الأمة من غفلتها، وتقف سدًا منيعًا أمام تطبيع حكامها مع هذا الكيان المجرم الغاصب، بل لتقطع الأمَّةُ مع الكيان الصهيوني كل علاقة، ونزرع في قلوب أبناء الأمة أن هذا الكيان محتل لأرضنا مدنس لمقدساتنا، ووجب عليه أن يرحل اليوم قبل الغد.
______________
(1) تفسير القرطبي (9/ 219).
(2) رواه ابن ماجه (3251)، صححه الألباني.
(3) رواه مسلم (2308).
(4) رواه الترمذي (807)، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) رواه مسلم (984).