(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)، الإنسان حصيلة أشياء كثيرة، وليس مجرد كائن يتنفس ويأكل ويعيش ويتكاثر مثله في ذلك مثل الحيوانات التي تشاركه نفس تلك الأشياء، فالإنسان حصيلة بيئته المحيطة به، وثقافته الموروثة، ودراساته التي حصل عليها، وتجاربه التي خاضها، وفوق كل هذا هو حصيلة ما قرأ من كتب على مدى عمره بالسنوات.
إنه حصيلة الأفكار والاتجاهات والتاريخ والمعارف التي تلقاها من الكتب التي اطلع عليها، وبقدر ما قرأ يزن عقله، ويتكون فهمه، ويستطيع تغيير ذاته ومحيطه ومجتمعه وبلاده ومن ثم حاضر ومستقبل أمته.
وأول كلمة، وأول تكليف، وأول أمر نزل به الوحي المبارك على الأرض كان «اقرأ»؛ ليلفت الله عز وجل انتباه البشر لشيء مهم، أنت لن تستطيع تحمل تبعات تلك الرسالة إلا بالقراءة، لن تتدبرها سوى بالقراءة، لن تقوم بأمرها سوى بالقراءة، بل هي قائمة على الفهم والوعي والمعرفة والتعلم، وكل هذا لا يتأتى إلا بالقراءة، إن أمة لا تقرأ أمة غائبة لا تستحق الوجود.
لماذا نقرأ؟
فجوة كبيرة حدثت بين الأجيال الحديثة والكتاب الورقي منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبلها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، التي أخذت الأجيال المتعاقبة من القراءة الجادة لتكوين المعارف والقناعات وتحديد الهويات، وأصبحت القراءة مجرد هواية للبعض وليست لصنع الهوية لنسبة قليلة، لا تضاهي هواة كرة القدم، على سبيل المثال، وكأن هناك من يدير عملية مشبوهة لصرف تلك الأجيال عن الكتاب الورقي وتسطيح معارف شباب الأمة.
لقد بنيت الحضارات بالعلم والقراءة والبحث، وذلك كله لا يتوفر بمجرد الانتظام بالمدارس والجامعات والحصول على الشهادات التعليمية، فالمسلم يجب أن يكون محيطاً بما يدور حوله في العالم، وهذا لا ينافي التخصص والتبحر في علم من العلوم، وقديماً قيل: «اعرف شيئاً عن كل شيء، واعرف كل شيء عن شيء»؛ أي أنك تقرأ في كل مجال ممكن، وتتخصص في مجال واحد.
والمسلم مأمور في كتاب الله عز وجل بالبحث في سير الأولين، والسعي في الأرض والتفكر والتدبر، وذلك لا يكون إلا بالقراءة، يقول الله تعالى في كتابه: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت: 20)، ولن يستطيع إنسان أن يسافر في التاريخ إلا عبر كتاب، ولن يستطيع إنسان أن يسافر في الجغرافيا جميعها إلا عبر كتاب، ولن يستطيع إنسان أن يؤتى من كل علم إلا عبر كتاب، ولن يستطيع إنسان أن يؤتى الحكمة كلها إلا عبر العديد من الكتب.
والمسلم مأمور بالتعلم، فكل كتاب يقرأه هو سبيل للعلم مأجور عليه إن هو جدد نيته، فعن أبي الدرداء قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (رواه أبو داود، والترمذي).
والقراءة تكسب الإنسان معارف وتجارب ومهارات لا يتسنى له في عمر واحد أن يكتسبها حتى لو قضى العمر مسافراً، فالقراءة تنقل إليك في مكانك مئات، بل آلاف الأفكار والتجارب وخلاصة خبرات التاريخ عمقاً والجغرافيا اتساعاً والعقول عدداً سلبياً فتتجنبه وإيجابياً تتعلمه، القراءة تنقل إليك في مكانك ما يوفر عليك أعواماً ومجهوداً مادياً ومعنوياً.
القراءة عند المفكرين
شكلت القراءة حياة المبدعين والمفكرين والعلماء والمميزين في كل زمان، فمن المستحيل أن تجد عالماً أو متميزاً في الحياة لم يكن قارئاً مجداً منذ صغره، وأقدم في تلك السطور جملة من أقوال بعض هؤلاء في القراءة:
– يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، في القراءة: أهوى القراءة؛ لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب(1).
– يقول ابن الجوزي: وإني لأخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز.
– وفي أهمية القراءة يكتب د. راغب السرجاني، في كتابه «القراءة منهاج حياة»، عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أسرى «بدر»، فيقول: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من الأسير المشرك الذي يريد فداء نفسه من الأسر تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، هذا شيء غريب جداً، وخاصة في ذلك الزمن الذي انتشرت فيه الأمية، لكن القراءة والكتابة والتعلم احتياجات ضرورية لأي أمة تريد النهوض والتقدم والرقي.
وإذا نظرنا إلى حال المسلمين أيام «بدر»، وجدناهم في حاجة إلى الأموال وفي حاجة إلى الاحتفاظ بالأسرى للضغط على قريش، أو الاحتفاظ بهم لتبادل الأسرى إذا أُسر مسلم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر فيما هو أهم من ذلك كله، وهو يعلّم المسلمين القراءة، كانت نقطة مهمة في فكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني الأمة بناء متكاملاً، حتى إن الصحابي الذي يستطيع القراءة كان يقدم على أصحابه، انظر إلى زيد بن ثابت الذي قدم على كثير من الصحابة وصار ملاصقاً للرسول صلى الله عليه وسلم بصفة شبه دائمة؛ لأنه يتقن القراءة والكتابة فصار كاتباً للوحي، وكاتباً للرسائل، ومترجماً للسريانية والعبرية، كل ذلك بينما كان عمره ثلاثة عشر عاماً فقط(2).
كيف نعيد الشباب للكتاب الورقي؟
يجب أن نعترف أولاً أن هناك خللاً خاصاً وعاماً هو السبب في إعراض الأكثرية عن القراءة، وكي نعيد الشباب للقراءة فعلينا أن نواجه أسباب إعراضهم عنها.
أولاً: المستوى الخاص؛ وهو الأسرة ومسؤولية الوالدين الكبيرة نحو تشكيل قناعات الأبناء وغرس قيمة حب القراءة وربطها بالعقيدة.
ثانياً: المستوى العام؛ وهو دور الأنظمة والحكومات في توفير الكتاب الورقي بسعر ملائم للجميع، وإتاحة الفرصة للإبداع وتشجيع المبدعين لتقديم الأفكار في أفضل صورة لجذب القارئ في كافة المراحل السنية.
إن مسألة القراءة يجب أن تتلقى دعماً كافياً من كافة الجهات التربوية المعنية بشأن الأمة وتصحيح مسارها، وإلا فلن نتحرك عن ذلك المربع خطوة واحدة.
_________________
(1) كتاب «لماذا نقرأ؟» للكاتب رجب البنا.
(2) كتاب «القراءة منهاج حياة» للدكتور راغب السرجاني، ص 8.