إن أعظم ما تهديه لإنسان -بعد هدايته للطريق المستقيم- أن تحرره مما يقيِّد حريته، سواء أكان عبودية ورقًّا، أو سجنًا واعتقالاً، أو احتلالاً واستعمارًا.
فالمقيد حريته -بأي صورة من الصور- يكون مسلوب الإرادة بدرجات متفاوتة، ويتحكم فيه آخرون بدرجات متفاوتة كذلك.
وما ينطبق على الأفراد ينطبق بتمامه على الأمم، ولن تتمكن أمة من النهضة والتقدم في ظل تقييد حريتها، سواء بالاحتلال المباشر، أو التبعية لدولة ما أو لمجموعة من الدول.
فالنهضة لن تكون تامة أو شاملة إن كانت في ظل احتلال أو تبعية، بل ستكون منقوصة، أو يوضع في طريقها العراقيل والعقبات، أو يتم الإجهاز عليها كليًّا.
لذا، لن تكون هناك نهضات إلا بالتحرر الكامل للشعوب من أي احتلال أو تبعية.
فطريق النهضة يمر عبر جسر الحرية، والجزائر حالها كحال بقية الدول والأمم والشعوب لم تكن لتسلك طريق النهضة إلا عبر جسر الحرية.
وقد بذلت في سبيل التحرر -من هذا الاستدمار الفرنسي الغاشم ومن قبله الاحتلال الإسباني لوهران في الغرب الجزائري الذي قارب ثلاثة قرون- الدماء الكثيرة الغزيرة.
فالجزائر عانت من الاحتلال الجزئي والكلي ما يقرب من خمسة قرون، ترك آثاره السيئة والسلبية على السياسة والتعليم والاقتصاد والصحة.. إلخ.
لذلك هب الجميع للوقوف في وجه هذا الاحتلال؛ الرجال والنساء، العلماء وطلبة العلم، المتعلمون والأميون.. إلخ.
ونريد هنا أن نسلط الضوء على العنصر النسوي؛ فلم تتأخر المرأة الجزائرية عن الوقوف في وجه العدوان، بل وصل الأمر ببعضهن لقيادة المقاومة ضد المستعمر الفرنسي الدخيل.
وعلى رأس هؤلاء لالَّا(¹) فاطمة نسومر (1830 – 1863م) التي كانت قد كبدت الفرنسيين خسائر جمة، وأنزلت بهم هزائم كبيرة، والانتفاضة التي قادتها ضد الاستعمار تظل من أهم معالم المقاومة في الجزائر بفضل شجاعة هذه السيدة ونبلها.
وقد أشار إليها الفرنسيون حينئذ باعتبارها جان دارك جرجرة (نسبة لجبال جرجرة في المنطقة)، وهو تشبيه رفضته لالا فاطمة مفضلة حمل لقب خولة جرجرة نسبة للصحابية خولة بنت الأزور(2).
وهناك الكثيرات أخريات لمعت أسماؤهن في سماء القضية الوطنية منذ دخول الاحتلال الفرنسي، مثل: المقاومة لالة زينب القاسمي، والشهيدات حسيبة بن بوعلي، ومليكة قايد، وفضيلة سعدان، والمجاهدات الجميلات الثلاث -كما يطلق عليهن- جميلة بوحيرد، وجميلة بوعزة، وجميلة بوباشا(3).
فتلك المشاركة في الجهاد والمقاومة لم تكن عملاً فرديًّا عند بعض النساء، ولكنها تجاوزت ذلك، وكانت حالة تحتاج إلى توقف ودراسة؛ فقد أحصت الباحثة عمران جميلة 10 آلاف و949 امرأة مناضلة في صفوف الثورة الجزائرية، منهن 9194 مناضلة مدنية، و1755 عسكرية في جيش التحرير.
ومن خلال إحصائيات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م، بخصوص سن المناضلات والمجاهدات، يتجلى أن 15% من الفتيات أقل من 20 عامًا، و85% أقل من 30 عامًا، مما يجعل الشابات هن الشريحة الأولى.
كما مثلت نسبة الريفيات حوالي 70%، أما الحضريات فكن حوالي 20%.
في حين تثبتُ إحصائية المعتقلات والشهيدات سجْن 1343 مناضلة وقتْل 948 أخرى(4).
وقد أذهلت هذه المشاركة العدو نفسه، فقد سجل الجنرال ماسو في مذكراته أن المرأة الجزائرية حملت القنابل لتضعها في الأماكن المناسبة، وشكلت شبكة حقيقية بفضل أجهزتها والبراءة المصطنعة في سلوكها، حتى استطاعت بكل حرية أن تخترق الأوساط التي تريدها دون إثارة انتباه أحد(5).
وقد قامت النساء بدور غير منكور في علاج المجاهدين، وقد جمعت بعضهن بين التمريض وتمرير الأسلحة للفدائيين للقيام بمهماتهم، مثل الشهيدة زبيدة ولد قابلية، التي سجل التاريخ أنها أوَّل جامعية تسقط في ميدان الشَّرف(6).
ومنهن من كان لها دور كبير في تنظيم المظاهرات، وتعليم المجاهدين، ونقل الأخبار مثل الشهيدة مليكة قايد(7).
وللجهاد ضريبته؛ إما بالاستشهاد أو الإصابة أو الاعتقال، وحينها يوقع العدو أشد أنواع العذاب والنكال عليهن للخروج بأي معلومة منهن، ولأن الخساسة في دماء جنود المستدمرين، فكانوا لا يتورعون عن اغتصاب الشريفات العفيفات، وقد أقر الفرنسي هنري بولوت بأنه شهد مئات الحالات من الاغتصاب خلال 10 أشهر فقط في عام 1961م، حدثت أغلبيتها في مراكز الاستجوابات والتعذيب بالجزائر، وروى في كتابه «لا فيلا سيسيني» (La villa Sesini) أن اغتصاب الجزائريات أثناء حملات القوات العسكرية كان يتم بنسبة 9 مرات من 10(8).
وبعد الحصول على الاستقلال، واصلت عشرات النساء اللواتي شاركن في الثورة من مواقع مختلفة العمل في المجال العام، مثل: زهور ونيسي، السياسية والكاتبة، التي شغلت لاحقًا خططًا وزارية مختلفة، وشاركت في تأسيس الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، وأدارت مجلة «الجزائرية»، وشغلت منصب نائبة في البرلمان، وكذلك نفيسة حمود، الطبيبة والمقاتلة السابقة في جيش التحرير الوطني، التي شغلت مناصب وزارية إلى جانب رئاستها الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات وعملها في القطاع الصحي(9).
فهذه أمثلة على رموز الجهاد والمقاومة والتحرر من نساء الجزائر، اللواتي عبَّدن مع شقائقهن من الرجال طريق الحرية والنهضة.
والأمة التي قاومت وجاهدت على مدار خمسة قرون ولم تستسلم قادرة على سلوك طريق النهضة والتقدم والرقي.
وإن كنا نلنا استقلالنا من أكثر من ستين عامًا ولم ننهض النهضة اللائقة بعدُ بتلك الأمة، فهذا لا يصيبنا باليأس والإحباط؛ إذ إن ما تم هدمه ومحوه في خمسة قرون لا يمكن -بحال من الأحوال- أن يتم بناؤه في خمسين عامًا.
ومن بذل الدماء لا يبخل ببذل العرق لنهضة أمته ورفعتها، لكن أمانة الشهداء «الجزائر» تحتاج منا ألا ننسى جهود من سبقونا لنسير على دربهم ونسلك مسلكهم ونكمل مسيرتهم.
_______________________________
(1) تعني: السيدة الشريفة.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(7) المرجع السابق.