تواضَع كثيرٌ من المفكرين على إطلاق هذا المركب الوصفي «المشروع الإسلامي» على الحل الذي يقدمه الإسلام لتنظيم شؤون الحياة، وحكم البشرية، والواقع أن «الإسلام»، بوصفه رسالة سماوية، أكبر وأوسع وأعمق من أن يكون «مشروعاً»، فهو دين ورسالة ووحي سماوي، نزل به الروح الأمين على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من قِبل اللطيف الخبير ومن يعلم السر وأخفى؛ ليحكم هذه البشرية بما أودعه الله فيه من مفاسد تُدفع، ومصالح تُجلب، للبشرية في الدنيا والآخرة.
ولكن نزولاً على الاصطلاح المعاصر الذي أطلقه المعاصرون ليجاروا به المشاريع الأخرى؛ بياناً لطبيعته، وتحديداً لأهميته، وكشفاً عن آفاقه، وإظهاراً لتفوقه وتميزه.. نزولاً على هذا كله نتحدث عن المشروع الإسلامي والبعد المقاصدي فيه من حيث طبيعة هذا البعد، وما يترتب عليه من فوائد وثمرات.
طبيعة البُعد المقاصدي في المشروع الإسلامي
إن أعظم ما يمكن أن يتأمله الإنسان في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم المقاصد التي جاءت بها، والغايات التي نزلت لتحقيقها، فإن أي منصف أياً كان دينه حين يُنعم النظر ويُمعن الفكر في معالم هذا الدين وحقائق شريعته، لا يمكنه أو لا يسعه إلا أن يجد غايته هي مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة.
الشريعة الإسلامية نزلت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد
وقد أجمع العلماء على مر العصور على أن الشريعة الإسلامية إنما نزلت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد جميعاً، وأنها كما قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية: «عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.
فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.
فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة»(1).
وهكذا كل الأوامر والنواهي الإلهية في القرآن الكريم، وفي السُّنة النبوية، لا شيء فيها غير مصلحة هذا الإنسان المخلوق المكرم؛ ولهذا قال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام: «والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله تعالى يقول: «يا أيها الذين آمنوا»؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه، أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح»(2).
المصالح في النظام الغربي دنيوية متغيرة ومضطربة وقاصرة وتتحول
فهذه هي طبيعة الشريعة الإسلامية، وهذا هو البعد المقاصدي فيها، ولكن من المهم أن نعلم أن البعد المقاصدي هو الذي تدور عليه الأحكام، ومنه تنطلق، وعنه تصدر، وإليه ترجع، فمدار الأحكام إنما هو على تحقيق المصالح، وهذه المصالح أو المقاصد ثابتة لا تتغير، خالدة لا تموت، منضبطة لا تضطرب، مستمرة لا تتوقف، ظاهرة لا تختفي، شاملة لا قاصرة، راسخة لا تُميلها ريح هوج، ربانية لا تحيز فيها ولا نقص، مطردة لا تتخلف عن أي صورة، واضحة ليس بها غبش ولا ضبابية.
قارن ذلك بالمصالح في النظام الغربي ومشروعه، فسوف تجدها مقاصد متغيرة لا ثابتة، وفوق سطح الأرض لا رسوخ لها، وتتخلف في عشرات بل مئات الصور، ومضطربة لا منضبطة، وتتحول ولا تستمر، وقاصرة لا شاملة، وظاهرة وواضحة في هذا كله.
فمصالح الغرب هي الأولوية، والمصالح عنده دنيوية لا أخروية ودنيوية معاً، إن وقفت الحريات في طريقه دهسها، وإن كانت الأرواح عقبة في تحقيق مصالحه الخاصة أزهقها، وإن كانت الدماء حائلاً يحول بينه وبين تحقيق مصالحه الشخصية أسالها ولا يبالي.
هذا ما نراه في وقعنا، وتصدقه أحداث اليوم، ووقائع الأمس، ولن ينفك الغرب الكافر ولا الشرق الملحد عن هذا السلوك؛ لأنه لا يتبع شريعة من لدن حكيم خبير، ولا يدخل في حساباته العرضُ على الله؛ فإن الإيمان باليوم الآخر منبع الاستقامة في الدنيا، والنهضة الحضارية الشاملة المتوازنة للأمة والإنسانية جمعاء.
البُعد المقاصدي معيار حاكم على حياة الأفراد والمجتمعات والهيئات
ثمرات البُعد المقاصدي في المشروع الإسلامي
في شريعتنا أو مشروعنا الإسلامي السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي والإعلامي وكل مشتملاته ومتعلقاته، وقد بينا طبيعته قبل قليل، البعد المقاصدي فيه له ثمرات وفوائد عظيمة جداً، ومنها:
أولاً: أنه معيار حاكم على حياة الأفراد والأسر والجماعات والمجتمعات والهيئات والمؤسسات؛ فإن السعي في ضوء المقاصد يعطي معياراً للقياس في جوانب حركة الحياة، وبدون هذا المعيار لا يمكن أن نقيس إنجازنا ولا أين نقف.
ثانياً: أنه يجعلنا نقوم بغايات وجودنا في الاستخلاف والعمارة والعبادة على وجه الإتقان والإحسان؛ لأننا نتعبد الله تعالى به، وبالسعي نحو تحقيق هذا البعد المتغيا من حركتنا وأنشطتنا.
ثالثاً: أنه يجعل هذا المشروع خاضعاً دائماً وأبداً للتقييم والتقويم في ضوء بعده المقاصدي، فإن كان هناك انحراف فإنه يُقوّم في ضوء بعده المقاصدي، وإن كان هناك خطأ يُصحح، وإن كان هناك ضعف يُقوّى، وإن كان هناك بطء في الحركة فإن تحكيم البُعد المقاصدي يثمر السعي الحثيث الأمين.
رابعاً: أنه يفيد في اختيار الوسائل المناسبة، ويرشد إلى تجديد هذه الوسائل وتقويتها، وتغييرها إن لزم الأمر؛ احتكاماً إلى هذا البُعد المقاصدي المبثوث في مشروعنا الإسلامي ومظاهر الحياة فيه جميعاً.
خامساً: أنه يعين العاملين على تخطي العقبات، ومواجهة التحديات، والتغلب على المعطلات، وتجاوز المحن والابتلاءات؛ لأن هذا البعد المقاصدي الذي هو روح المشروع ولحمته وسداه يجعله مشدود الآفاق، بعيد النظر، عالي الهمة، عيناه على رضا الله تعالى والجنة.
قارن هذا بالمشروع الغربي الذي يحمل عوامل فشله في طياته؛ لأنه لا شيء يتعلق به سوى مصالحه الخاصة المحدودة الفانية، ولا شيء يربطه بعد هذه الحياة بثواب أو عقاب، ومن ثم لا نجد فائدة واحدة من هذه الفوائد تترتب على مشروعه سوى النجاحات القاصرة، والاختراعات المادية المتغيرة، والسعي بنظر قليل وعقل مريض وفكر عليل، وهذا يجعلنا أكثر تمسكاً بعقيدتنا، وأعظم فخراً بشريعتنا: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
____________________________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، (3/ 11-12).
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/ 11).