اهتمت السياسة الشرعية الإسلامية بتحقيق مصالح العباد، وحفظ دينهم وأمنهم واستقرارهم، ومن الوسائل المهمة في هذا الشأن: وجود الحاكم المسلم، الذي يسوس الدنيا بالدين، ومن أجل أن يؤدي الحاكم واجبه؛ كان لا بد له من حقوق وصلاحيات، منها:
أولاً: حق السمع والطاعة في غير معصية الله:
أمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر، حيث قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59)، وَهَذَا الْأَمْرُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الطَّاعَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ للهِ عَزَّ وَجل، ويدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»؛ يَعْنِي عليه أن يسَمْعُ كَلَامِ الْحَاكِمِ ويطيعه، سَوَاءٌ أَمَرَ بِمَا يُوَافِقُ طَبْعَهُ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ؛ بِشَرْطِ أَلَّا يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ.
كما روى البخاري ومسلم عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعْنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».
وقد أكد الرسول ﷺ أن طاعة الحاكم من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «مَن أطَاعَنِي فقَدْ أطَاعَ اللَّهَ، ومَن عَصَانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطَاعَنِي، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصَانِي»(1).
فعلى المسلم أن يسمع للحاكم ويطيع أمره ما دامَ مُتَمَسِّكًا بالإسلامِ، ولم يَأمُرْ بمَعصيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ثانياً: الوفاء بالبيعة:
البيعة هي العهد والميثاق على الطاعة؛ لأن الرعية يُسَلِّمُونَ أمرهم لِلْإِمَامِ، بحيث ينظر فِي أَمورهم، ويرسم سياسة المعيشة والأمن لهم، ويطيعونه فيما يكلفهم به من أمور، تيسر لهم الحياة الكريمة، بشرط ألا يكون في ذلك شيء من معصية الله.
ويدل على وجوب الوفاء بالبيعة للحاكم ما رواه مسلم في صحيحه عن عبداللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وعن أبي حازم قال: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ»، قالوا: فَما تَأْمُرُنَا؟ قالَ: «أوفُوا ببَيْعَةِ الأوَّلِ، فَالأوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»(2).
ثالثاً: حق النصح:
المسلمون مطالبون بنصح الراعي بالحكمة، وذلك عن طريق أهل الحل والعقد أو المجالس المتخصصة، ففي صحيح مسلم عن تميم الداري أن رسول الله ﷺ قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: «لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»، والنَّصيحةُ لأئمَّةِ المسلمين تكونُ بمُعاونتِهم على الحَقِّ، وطاعتِهم في المَعروفِ، وتَنبيهِهم وتَذكيرِهم برِفقٍ ولُطفٍ بأنسبِ الطُّرقِ على ما غَفَلوا عنه، مع إعانتِهم في إصلاحِ النَّاس.
وقد أكّد الرسول ﷺ أن بذل النصح للحاكم يدل على سلامة قلب فاعله، وخلوه من الغل والغيظ على أمة محمد ﷺ، فقد روى أحمد في مسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقول: «ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ»؛ فَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ مُنَافٍ لِلْغِلِّ وَالْغِشِّ؛ لِأَنَّ النَّصِيحَةَ لَا تُجَامِعُ الْغِلَّ، وَلَا تُجَامِعُ الْغِشَّ؛ إِذْ هِيَ ضِدُّهُ، فَمَنْ نَصَحَ الْأَئِمَّةَ وَالْأُمَّةَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْغِلِّ.
رابعاً: وجوب احترامه وعدم إهانته:
وهذا الحق يهدف إلى المحافظة على المصالح العامة للمسلمين، حيث لا تنضبط المصالح العامة للناس إلا بتعظيم الحاكم وتوقيره، فإذا أُهِين الحاكم؛ فإن ذلك يؤدي إلى فساد وتهارج بين الناس، حيث لا يخافون من أحد، ولذلك فإن من الخير للناس أن يحافظوا على تعظيم السلطان وتوقيره، وفي هذا يقول سَهْلُ بْنُ عَبْدِاللهِ التَّسْتُرِيُّ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا السُّلْطَانَ وَالْعُلَمَاءَ، فَإِنْ عَظَّمُوا هَذَيْنِ؛ أَصْلَحَ اللهُ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَإِنْ اسْتَخَّفُوا بِهَذَيْنِ؛ أَفْسَدُوا دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ(3).
وقد أكدت السُّنة النبوية الشريفة وجوب توقير الحاكم واحترامه، ومن ذلك مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بسند صحيح، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ»، كما أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: «خمسٌ مَن فعل واحدةً منهنَّ كان ضامنًا على اللهِ (أي ضمن له دخول الجنة): مَن عاد مريضًا، أو خرَج غازيًا، أو دَخَلَ عَلَى إِمَامِهِ يُرِيدُ تَعْزِيرَهُ أَوْ تَوْقِيرَهُ، أو قعد في بيتِه فسلِمَ النَّاسُ منهُ، وسَلِمَ من النَّاسِ»، فقد ضمن الرسول ﷺ الجنة لمن دخل على إمامه يريد توقيره واحترامه.
بل إن أصحاب النبي ﷺ ومن جاء بعدهم من التابعين والعلماء قد نهوا عن سب الحاكم وإهانته، ومن ذلك ما أخرجه ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي «السُّنَّةِ»، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالُوا: لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تُبْغِضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ.
وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن أَبِي الدَّرْدَاءِ قال: إِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرْءِ طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ.
وأخرج ابن عَبْدِ الْبَرِّ فِي «التَّمْهِيدِ» عن أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قال: مَا سَبَّ قَوْمٌ أَمِيرَهُمْ إِلَّا حُرِمُوا خَيْرَهُ.
وفي هذا دليل على وجوب توقير الحاكم واحترامه، وعدم إهانته، من أجل تحقيق مصالح الناس وحفظ أمنهم واستقرارهم، ما لم يروا من هذا الحاكم خروجاً صريحاً على أحكام الإسلام وشرائعه.
________________________
(1) أخرجه البخاري (2957)، ومسلم (1835).
(2) أخرجه البخاري (3455) واللفظ له، ومسلم (1842).
(3) الجامع لأحكام القرآن الكريم، الإمام القرطبي (5/ 224).