في غرفة فخمة الأثاث والرياش، تفوح منها رائحة العطور الزكية، ويظهر فيها أثر الترفه والترف، كان راقداً على سريره الكبير وفراشه الوثير، يشاهد التلفاز ويسمع تلبية الحجيج التي تهز كيانه، وتحرك قلبه وتملؤه لهفة واشتياقاً لأن يقف موقفهم هذا ويكون معهم.
أراد أن يقوم لكنه لا يقوى على القيام ولا تطاوعه قدماه، تذكر أيام شبابه وصباه حين كان لا يقعد إلا قليلاً، ولا يهدأ حتى ينتهي من جميع أعماله وكله نشاط وهمة وحيوية؛ حتى صار ذا مال ويسار، يملك من الأرض والعقار، والمسكن والمال ما يغنيه وأولاده عن الحاجة والسؤال، تذكر كل ذلك وهو جالس على سريره هذا يصاحبه ضعف المرض وتغلبه هزة الشيخوخة، تمنى أن يرجع للوراء حيث القوة والصحة والشباب، لكن هيهات هيهات أن يرجع ما مضى وفات، تمنى من أعماق قلبه أن يعيش بنفسه هذا الموقف العظيم مع حجاج بيت الله ملبياً، لكنه لا يستطيع إجابة النفس لما ترجوه الآن وتتمناه.
اعتدل في جلسته وهو يتململ ضجراً من نفسه! همس في أذنها مخاطباً إياها: سامحيني يا نفس؛ لقد حرمتك من لهفة الشوق، وشرف القرب ولذة اللقاء، ونعيم النظر إلى الكعبة المشرفة، والطواف حولها والقرب منها والتعلق بأستارها، لقد أقعدتُك عن السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة حيث تُسمع وتُجاب الدعوات، وتُسكب الدموع والعبرات، فأرجع بك بلا ذنوب كيوم ولدتني أمي.
خاطبته نفسه معاتبة: وما الذي منعك من ذلك كله أيها الشيخ الكبير؟! ألم يؤتِك الله المال؟ ألم يمُنّ عليك بالصحة والعافية؟ ألم يهبك من الوقت ما تفرغ نفسك فيه لأداء الفريضة؟ ألم ييسر لك وسائل السفر المريحة ويجعل طريق سفرك آمنة؟ ألم يمدّ في عمرك ويهبك الشباب والقوة لتحج إلى بيته وتفد عليه ضيفاً مكرماً؟ فلماذا كان التسويف والتأجيل، والتأخير والتقصير، وقد توفرت لديك شروط الاستطاعة منذ وقت طويل لكنك لم تفعل، وها أنت الآن تتمنى أن تحج بنفسك فلا تستطيع!
أجابها وقد أيقن تقصيره: صدقت يا نفس، فلقد أقعدني طول الأمل، وشغلتني دنياي عن تعجل الحج وأداء الفريضة، فيا ليتني تعجلت وحججت!
لا تؤجّل حجك
إن هذه هي حال بعض الناس مع فريضة الحج العظيمة، التي هي ركن من أركان الإسلام، حيث ينشغلون عنه في أمور دنياهم انشغالاً كبيراً يصرفهم عن المسارعة في الذهاب للحج، بينما هم يستطيعون ذلك، لكنهم يؤجلون عاماً بعد عام، فيمر العمر بهم سريعاً ولا يفيقون إلا بعد فوات الأوان، فقد يحبسهم المرض، أو يحضرهم الأجل ويفاجئهم الموت في أي وقت قبل أن يحجوا.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فقال: «تعَجَّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يَعرِضُ له» (رواه أحمد)، وقال: «مَن أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرِضُ الحاجة» (ابن ماجه، وأحمد).
ولماذا لا يتعجل المسلم حجه وقد أمر الله تعالى به في كتابه فقال: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97)، قال ابن كثير: «هذه آية وجوب الحج عند الجمهور»، وقال القرطبي: اللام في قوله «ولله» لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى: «على» التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج ركن من أركان الإسلام فقال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (رواه البخاري).
فينبغي للجميع أن يأخذ بأسباب الاستطاعة ويسارع إلى الحج، فيحج الشاب قبل أن يشيب، والقوي قبل أن يضعف، والصحيح قبل أن يمرض، والغني قبل ذهاب ماله، والحي قبل أن يموت، ولسان حالهم جميعاً: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه: 84).
حجة العمر المباركة
إن من رحمة الله تعالى أنه فرض علينا الحج مرة واحدة في العمر، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا»، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم لوجبت، ولمَا استطعتم» (رواه مسلم)، وهذا من يُسر الإسلام وسماحته، فلو فرضه كل عام لشق ذلك علينا.
وفي هذه الحجة المباركة يصيب الحاج من نفحات الله تعالى ما لا يصيبه في غيرها، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضائل وثمرات الحج، ترغيباً للمسلم وحثاً له على المسارعة والتعجل متى تحققت الاستطاعة، ومن ذلك قوله: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه» (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (رواه البخاري)، وقوله: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجَّة المبرورة ثواب إلا الجنةَ، وما من مؤمن يظل يومه محرماً إلا غابت الشمس بذنوبه» (صحيح الترغيب).
ألا ترغب أيها المسلم في الحصول على هذه الجوائز العظيمة حين تتعجل حجك، وإنها خير لك من كنوز الدنيا جميعاً، هيا سارِع بإعداد زادك لهذه الرحلة المباركة وانضم إلى قوافل الحجيج وجموع الملبين؛ لتكون ضيفاً من ضيوف الرحمن عز وجل ملبياً نداء ربك بلسان حالك وفِعالك؛ «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».