يواجه السودان بشكل متزايد احتمالات تقسيمه إلى كيانات صغيرة على أساس عرقي وقبلي في آن واحد، حيث أفرز الصراع الأخير بين قوات «الدعم السريع»، التي تتشكل من قبائل الرزيقات والمحاميد والمسيرية، وهي قبائل عربية ترتحل بأبقارها ما بين السودان ودول الجوار بحثًا عن العشب، التي ترجح التقارير سعيها لفصل إقليم دارفور غرب السودان، وإعلانه دويلة خاصة بها، وذلك بعد سيطرة قوات «الدعم السريع» على أربع من الولايات الخمس التي يتشكل منها الإقليم.
وحتى كتابة التقرير، تقاتل قوات «الدعم السريع» للسيطرة على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور لإعلانها عاصمة للدولة الجديدة.
وإذا ما حدث ذلك، فإنه سيكون التقسيم الثاني للسودان على أساس قبلي وعرقي بعد انفصال جنوب السودان في العام 2011م، حيث برر حكام الجنوب سعيهم للانفصال بزعم أنهم مجموعة عرقية وقبلية ودينية تختلف عن بقية المكون السوداني ثقافيًا ودينيًا واجتماعيًا وقبليًا.
كما يلوح في الأفق تقسيم آخر في جنوب السودان خاصة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيث تقود الحركة الشعبية بزعامة عبدالعزيز الحلو تمردًا آخر لقبائل النوبة والفونج والأنقسنا، والعديد من القبائل الأفريقية التي يعتنق جزء كبير منها الديانة المسيحية، وعلى الرغم من أن الشعارات التي يرفعها عبدالعزيز الحلو تدعو إلى سودان جديد يبنى على العلمانية في مواجهة الدين، فإن هذا الطرح هو نفسه الذي كان يرفعه جون قرنق قائد دولة الجنوب، واستثمر فيه كثيرًا ليكسب دعمًا كبيرًا غربيًا وأمريكيًا ساعده في الانفصال بالجنوب رغم أن الشعار الذي قامت على أساسه حركة تحرير السودان بزعامة جون قرنق كان ينادي بالسودان الجديد الموحد.
دولة دارفور
يتشكل إقليم دارفور من مكونين قبليين أساسيين، هما: القبائل الأفريقية الرئيسة مثل الزغاوة الممتدة إلى دولة تشاد، التي ينتمي إليها الرئيس محمد إدريس دبي، وقبائل الفور والمساليت والبرتي، وغيرها من القبائل الأفريقية الأخرى، ومجموعة القبائل العربية التي يأتي على رأسها قبيلة المحاميد الممتدة من السودان إلى دول الجوار في تشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، ولها فروع في النيجر، والكاميرون، وبعض دول الساحل.
والمكون العربي في دارفور أيضًا يشمل قبائل الرزيقات والمسيرية وبني علبة، وغيرها من القبائل العربية الأخرى.
ويقود محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، تمرده على الدولة السودانية انطلاقًا من قبيلته المحاميد، رافعًا شعار القضاء على دولة الاستقلال في العام 1965م بحجة أن عرب الشمال في السودان قد سيطروا على السلطة والثروة، وقاموا بتهميش واستبعاد قبائل العرب الرحل، وحرمانهم من كل حقوقهم الأساسية من سلطة وثروة وتعليم وصحة.
ونجح حميدتي في إقناع عدد كبير من عرب الشتات في دول الجوار بالقتال معه ضد دولة المركز في الخرطوم.
الوضع الراهن
نجحت قبائل عرب الشتات تحت زعامة حميدتي في حربها على الدولة والجيش السوداني، منذ 15 أبريل 2023م، في السيطرة على ولايات رئيسة ومهمة، حيث تحتل الآن الخرطوم بحري التي تشكل ثلث العاصمة المثلثة والمكونة من أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري، كما تسيطر على أكبر ولاية اقتصادية، وثاني أكبر ولاية من حيث عدد السكان؛ وهي ولاية الجزيرة التي يقطنها 5 ملايين سوداني، إضافة إلى أجزاء من ولايات غرب وجنوب كردفان في أقصى جنوب البلاد، وأربع من ولايات إقليم دارفور الخمس، وقد جاء هذا الانتصار لأسباب عدة، من بينها:
1- استغلال حميدتي وجوده على رأس قوات «الدعم السريع» التي كانت جزءاً من الجيش السوداني، ونجاحه في إقناع قيادة الجيش بتأمين المواقع الإستراتيجية والحيوية في البلاد، بزعم الحفاظ عليها من الفوضى، التي أصبحت تحت سيطرته بمجرد إعلانه قرار التمرد، في 15 أبريل 2023م.
2- تلقي قوات «الدعم السريع» مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة من دول الغرب عبر دول الجوار، التي تدعم فكرة تقسيم السودان على أساس قبلي، وتحاول تطبيق نموذج انفصال دولة الجنوب في العام 2011م.
3- نجاح حميدتي وداعميه في جلب أعداد كبيرة من دول الجوار للقتال إلى جانبه، بعد أن قام باستخراج هويات سودانية لهم من خلال سيطرته على مقار السجلات المدنية في العاصمة الخرطوم.
4- اعتماد قوات «الدعم السريع» على الحزب الشيوعي واليسار السوداني، إضافة إلى نشطاء المجتمع المدني في ترويج خطاب التهميش القبلي، والحرب من أجل إقامة دولة يستقر فيها العرب الرحل من مناطق الشتات في الدول الأفريقية، وكأنه يصنع حلمًا لتجميع كل هؤلاء في دولة واحدة.
وعلى الرغم من تضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية لفصل إقليم دارفور تحت شعارات خادعة، فإن هذه الدولة المحتملة مهددة أيضًا بتقسيمها بين القبائل الأفريقية والقبائل العربية؛ وهو ما يعني أن خيار التقسيم على أساس عرقي وقبلي مصيره التشظي الدائم بين قبائل أفريقية وعربية، وقبائل صغرى.
دولة جبال النوبة
وهناك في أقصى الجنوب السوداني لا تزال الحركة الشعبية شمال بزعامة عبدالعزيز الحلو تقاتل الجيش السوداني وفقًا لنفس الشعارات التي رفعها في الماضي القائد الجنوبي جون قرنق، ويرفعها الآن حميدتي، والجميع انطلق وينطلق من شعارات براقة وكاذبة تدعو للمساواة ورفع الظلم، ولكنها تجيش القبائل ذات الأصول الأفريقية في مواجهة القبائل العربية، وقبائل عرب الشتات الرحل في مواجهة القبائل العربية والأفريقية الثابتة.
وهو الصراع القبلي الذي يلقى دعماً علنياً بأحدث الأسلحة من دول الغرب التي تعتقد أن السودان جغرافيا كبيرة يجب تقسيمها على أساس قبلي.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت في ثمانينيات القرن الماضي عن خطتها لإعادة تشكيل الدول الأفريقية على أساس قبلي، حيث طالبت واشنطن بإعادة تسمية الدول الأفريقية وفقاً لأسماء قبائلها الكبرى بحيث يكون هناك دولة للزغاوة، وأخرى للمحاميد، ودولة للهوسا، ودولة للدينكا، وغيرها من القبائل الأفريقية الكبرى، بزعم أن هذا هو الطريق الأمثل لحكم أفريقيا وإبعادها عن الصراعات القبلية.
وهكذا يبدو أن دول الغرب وضعت خطة محكمة لتقسيم السودان إلى دويلات صغيرة بدأت في العام 2011م بدولة الجنوب، وتساند دولة دارفور الآن، وتسلح جيش عبدالعزيز الحلو لهزيمة الدولة السودانية لإعلان دولة جبال النوبة، إضافة إلى احتضان فرنسا لعدد من نشطاء النوبة في شمال السودان، وترسيخ هوية ثقافية مستقلة لهم عبر المتحف النوبي في فرنسا تمهيداً لإعلان دويلة أخرى للنوبة في الشمال السوداني، وكل ذلك يتم بفشل النخبة الثقافية والسياسية السودانية في تجذير الهوية القومية الجامعة، وإحلال فكرة الدولة بدلاً من فكرة القبيلة التي تدمر رابع أكبر مخزون للغذاء في العالم وفقاً لتقارير الأمم المتحدة الإنمائية.