تختلف إستراتيجيات الدول في السيطرة على بعضها بعضاً ضماناً لمصالحها الخاصة بالاستيلاء على خيرات دول أخرى واستمرار تبعيتها بأساليب مختلفة تبعاً لكل فترة زمنية، وحسب خصائص تلك الفترة، وقد سيطر الغرب الأوروبي على الشرق العربي والإسلامي لأكثر من قرنين متواليين بإستراتيجية العنف والسيطرة العسكرية، ونشأ ما يسمى بحركة الاستعمار.
ونظراً لانتفاضة الشعوب ومقاومتها لتحرير أراضيها وضعف المستعمر وعدم استطاعته مواجهة حركات التحرر المسلحة في معظم البلدان التابعة له، فقد اعتمد إستراتيجية أخرى في محاولة استمرار السيطرة العقلية على الأجيال المتعاقبة كي يستأنف جلب خيرات تلك البلاد إلى بلاده، وذلك بالسيطرة الفكرية على العربية والمسلمة كي لا تنتفض في وجهه مرة أخرى، فأتت فكرة الغزو الثقافي، أو الغزو الفكري باستخدام القوة الناعمة التي نجحت إلى حد كبير لولا وجود الحركة الإسلامية التي انتصرت حيناً وأخفقت حيناً، ومع ذلك الإخفاق فإنها استطاعت أن تصنع حالة من الوعي الذي اتسع بشكل كبير ليشمل رقعة كبيرة في بلاد المسلمين، وأعداداً لا بأس بها من الشباب.
ما الغزو الفكري؟
تتعدد تعريفات الغزو الفكري، لكنها تلتقي جميعها في منطقة الإجراءات التي تتخذها دول الغزو تجاه دولة ما لتسيطر عليها، وهو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى، أو التأثير عليها؛ حتى تتجه وجهة معينة، وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة، ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه، حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه، ولذلك يصبح علاجها أمرًا صعبًا وإفهامها سبيل الرشد شيئًا عسيرًا(1).
وقد تعرضت الدول العربية لهجوم مكثف منذ منتصف القرن الماضي، وقام عليه المستشرقون ومن تأثروا بهم ممن تلقوا تعليمهم في أوروبا في نفس الفترة الزمنية، وتعرضت بلاد المسلمين لأخطر حملات ذلك الغزو الصليبي والشيوعي والعلماني، وما زالت تتعرض له عبر وسائل متعددة، سوف نذكر أهمها على الإطلاق حتى يتسنى للمعنيين أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه.
وسائل الغزو الفكري الثقافي
– التشكيك في ثوابت المسلمين كالسُّنة وصحيح البخاري والتراث الإسلامي، ومؤخراً التشكيك في بعض آيات القرآن الكريم، وذلك بالتعرض لرواته والتشكيك في قدراتهم العقلية على الحفظ وعدم النسيان ومن ثم نقل الآيات كما أنزلت، وقد تولت بعض وسائل الإعلام المرئية، وصفحات الإنترنت، تلك المسألة ليكون آخرها بمجموعة «تكوين»(2)، التي جمعت كارهي الدين وأدوات أعدائه لتشكيك الشباب في دينهم.
– تشويه الشريعة الإسلامية ولَي النصوص واجتزاؤها وفضها من مقاصدها الواضحة، وتفسيرها تبعاً للأهواء لتنفير البسطاء منها، خاصة ما يمس المرأة وحقوقها مثل مسألة تعدد الزوجات والحجاب والشهادة والميراث، بالرغم من أنه لا توجد شريعة ولا قانون في أي مكان بالعالم وفي أي تاريخ أنصف المرأة مثلما أنصفها الإسلام.
– العبث بالأسرة المسلمة عبر الأعمال الفنية المشبوهة التي تبدل المفاهيم والحقائق، وتغرس مفاهيم مثل الصداقة بين الرجل والمرأة وتبيحها، وفي ذات الوقت تصور التعدد خيانة زوجية لتشرع للحرام وتحلله وتبرره، وتحارب ما أحل الله، كذلك باسم حقوق المرأة وتحريرها نجح الغزو الفكري في إحداث ثورة مجتمعية هائلة بتفريغ مفهوم الأسرة والزوج والقوامة؛ فخرجت المرأة من مملكتها للشارع تناطح الرجال وتشاركهم الأمر ليفرغ البيت والأبناء والأسرة من التربية، ويكونوا نهبة لكافة أنواع الغزو الفكري ويكونوا أدوات طيعة في يد المستعمر الخفي.
– السيطرة على المناهج التعليمية منذ أن تولى القسيس دنلوب(3) مهمة وضع المناهج التعليمية في بلاد المسلمين، ليكون خريجو مدارسه مسلمين اسماً وعرباً نطقاً وأدوات له فيما بعد يقومون بنفس المهمة.
– تخصيص العديد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، والإنفاق الضخم للترويج لأفكار العلمانية التي تعني في ترجمتها الحرفية «اللادينية» للسيطرة على عقول أبناء المسلمين الذين يفتقدون للأسرة المربية والمدرسة والمعلم والإعلام التربوي كذلك فيسقط هؤلاء بسهولة، هذا غير حملات التنصير الفجة في أفريقيا مستغلين حاجة الفقراء والبسطاء.
– إنشاء الجامعات والمدارس الخاصة الدولية التي تقدم المناهج الغربية، وتشهد إقبالاً كبيراً بالرغم من ارتفاع كلفتها، وكأن هناك توجهاً لاصطفاء طبقة معينة في تلك المدارس وهم أبناء القادرين على دفع تكاليفها بالتأكيد في بلاد المسلمين، وحمل أفكار تلك المدارس والمناهج فيما بعد والتحرك بها في المجتمع، كذلك الحرص على إنشاء دور الحضانة ورياض الأطفال والمستشفيات والمستوصفات، لتكون غطاء لأعمال تبشيرية مشبوهة، ثم مساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية والوظائف الكبيرة، حتى يكونوا عونًا لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد المسلمين.
– بث النعرة العنصرية والقومية والعرقية بين المسلمين لتتفتت البلاد ويسهل السيطرة عليها من قبل المستعمر، وتسقط الوحدة الإسلامية على حدود «سايكس بيكو» وتضعف الدول أمام ما يراد بها.
– الهجوم على اللغة العربية وغرس مفاهيم غريبة على مجتمعاتنا العربية، حتى أصبح من الصعب عليك أن تجد محالاً تجارية تحمل كلمات عربية، وأصبح كذلك استخدام المفردات الأجنبية دليلًا على التحضر والتقدم في أكبر عملية تزييف مفاهيم تاريخية حدثت لنا كأمة إسلامية.
طرق مواجهة الغزو الفكري
– استخدام نفس الوسائل ومحاربة الفكر الفاسد بالعقيدة الصحيحة؛ فلا يستطيع أحد أن ينكر أهمية وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والمتطورة بشكل هائل على مدار الساعة، فدعوة الشباب لحظر استخدام تلك الوسائل أصبح من العبث بمكان، لأننا ببساطة لن نستطيع تنحيتها عن الحياة جانباً، وقد أصبحت واقعاً مفروضاً لا يمكن الفكاك منه، وإنما أصبح من الواجب تطويعها وتوظيفها واستخدامها لغير الغرض الذي أنشئت من أجله، فلا مناص من حسن توظيفها، وذلك بأن تقوم هيئات ومؤسسات إسلامية تقوم عليها الدول والمؤسسات المعنية بنشر مواقع تعنى بالتربية والتوجيه وبناء العقائد والرد على الشبهات بالحسنى والموعظة الحسنة ومواجهة الفكر بالفكر الصحيح حتى لا يجد الشباب نفسه منفرداً أمام حملات منظمة تحيط به ليل نهار ولا تيأس من استقطابه بكافة الوسائل.
– الاهتمام بالأسرة وتهيئتها لتحتل دورها التربوي المهم في إعداد الأبناء لمواجهة مثل هذه الحملات الشرسة، وذلك لن يتأتى إلا بإعادة المرأة لمهمتها الأساسية في الحياة وكفايتها العمل خارج البيت مادياً ومعنوياً للتفرغ تماماً لمسألة التربية.
– الاهتمام بالسيرة النبوية من قبل الدعاة في دروس المساجد وحلقات الدعوة والمدارس الدينية وعودة نظام الكتاتيب وتدريس سير الأولين من الصحابة والتابعين والفاتحين وإعادة حب المجد وعظمة الإسلام وعزته.
– توضيح خطورة حملات النيل من الدين والتصدي لها بحملات مضادة للتوعية والتعريف بالدين وقيمه ومبادئه وشريعته.
– دعم العلماء والوعاظ والدعاة من الشباب وتربية العديد منهم لمواجهة هذا الفكر من قبل الدول والمؤسسات المعنية.
– التفكير الجاد في توظيف الفن وتشجيع منتجين جدد للإنفاق في هذا المجال لملء الساحة بالفن الراقي الهادف الذي يحمل الرسائل والقيم المراد توصيلها، ولسوف يقبل عليه الجمهور لإزالة العفن الموجود على الساحة وهو الطريق الأقصى لتوصيل أي رسالة.
_________________________
(1) هذا التعريف ورد في حوار بمجلة البحوث الإسلامية حول الغزو الفكري، العدد 8، ص 286-293، أجراها مع الشيخ ابن باز.
(2) مؤسسة مصرية مشبوهة أقيمت على النَّيْل من ثوابت الدين والطعن فيه ومهاجمة السُّنة المطهرة والسخرية من شعائر الله عز وجل مثل شعيرة الأضحية التي يدعون أنها تتنافى مع الإنسانية.
(3) دوغلاس دنلوب، معلم ومبشر إسكتلندي، وضع في مصر نظامًا تعليميًا لخدمة أهداف الاحتلال البريطاني، حصل دنلوب على درجة الماجستير في الآداب من جامعة غلاسكو عام 1883م، ثم الدكتوراة في القانون من نفس الجامعة عام 1898م.