إن أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الحياة الدنيا ليس المال والمنصب والزوجة والأولاد والصحبة والمتعة، رغم أهمية كل هذه الجوانب في حياة الإنسان، فإن الوقت أهم منها، فما حياة الإنسان إلا وقت يقضيه من الميلاد إلى الوفاة، وفي أثناء هذا الوقت يأتي المال والزواج والأولاد وغيرهم من متاع الحياة، فإذا جاءت هذه الأشياء ولم يكن لها الوقت الذي يستوعبها؛ فلا قيمة لها، فالوقت وعاء لكل عمل وكل إنتاج، فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً أو مجتمعاً، بل إن الوقت هو الحياة(1)، فإذا كان الوقت هو الحياة فلا ينبغي للمسلم أن يضيع وقته فيما لا ينفع، لأنه بهذا يضيع حياته فيما لا فائدة منه ولا منفعة فيه.
وبناء على ما سبق، يمكن لنا أن نتساءل حتى نقف على الجواب النافع حول أهم الواجبات تجاه الأوقات، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: اغتنام الوقت وعدم إضاعته:
حثنا القرآن الكريم على استثمار الوقت وعدم إضاعته، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {9} وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون).
وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى اغتنام الوقت فيقول: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ»(2)، فعلينا أن نستثمر الزمان في فعل الخير وألا نستهلكه في المُلهيَات.
وتاريخ الإسلام مليء بالنماذج العطرة التي استفادت من أوقاتها فقدمت للأمة أعظم إنتاجها، فهذا ابن عقيل الحنبلي يؤلف كتاباً في 800 مجلد سماه كتاب الفنون، ولما سئل عن إنجازه هذا قال: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، فإذا تعطل لساني عن مذاكرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري حال راحتي وأنا مستطرح فإذا خطر لي شيء أقوم وأكتبه(3).
ثانياً: المسارعة في الخيرات:
الذي يقدر قيمة الوقت وأهميته يغمره بفعل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حيث أمر القرآن الكريم باستباق الخيرات قبل أن تشغل عنها الشواغل، قال تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) (البقرة: 148)، وأثنى الله تعالى على أنبيائه بالإشارة إلى كونهم يتسابقون إلى الخيرات، فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل عن الأعمال الصالحة، ففي صحيح الجامع الصغير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد الخدري: «ألا أعلمُكَ كلامًا إذا قلتَه أذهَب اللهُ تعالى همَّكَ وقضى عنكَ دَينَكَ؟ قُلْ إذا أصبَحتَ وإذا أمسَيتَ: اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ، وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ»، ففي هذا دليل على اغتنام الأوقات بالمسارعة في الخيرات، والحذر من العجز عن ذلك.
ثالثاً: الاعتبار بمرور الأيام:
ينبغي للمؤمن أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرة لنفسه، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار، فلا ينبغي أن يمر علينا الليل والنهار دون أن نتفكر فيهما وما يحصيانه علينا من أعمار، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 190)، وقال تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (النور: 44).
رابعاً: تنظيم الوقت:
الواجبات أكثر من الأوقات، ولهذا يجب علينا إدارة أوقاتنا بعناية حتى لا تضيع هدراً، مع صحبة لا يقدرون الوقت، أو نؤجل أعمالنا إلى الغد، بل نجلس ونخطط لوقتنا ونقسمه بما يلبي احتياجاتنا ويحقق غاياتنا، حيث يوزع المسلم وقته بين الأعمال والواجبات المختلفة، حتى لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى غير المهم على المهم، ومما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن صحف إبراهيم عليه السلام: «وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ»(4)، ومن تنظيم الوقت أن يكون فيه جزء لإقامة الشعائر التعبدية، وجزء للأعمال الدنيوية، وجزء للجوانب الترفيهية، حتى لا تصاب النفس بالملل والسآمة.
خامساً: تحري الأوقات الفاضلة:
ينبغي الاهتمام بالأوقات الفاضلة؛ لأن الشهور تتفاضل، وأفضلها شهر رمضان، والأيام تتفاضل، وأفضلها يوم عرفة، والليالي تتفاضل، وأفضلها ليلة القدر، وأوقات الليل تتفاضل، وأفضلها وقت السحر، وفي الأوقات الفاضلة تتضاعف الحسنات وتنزل البركات، فإنها تضيف للإنسان أعماراً فوق عمره، فليلة القدر مثلاً خير من ألف شهر، وهكذا يزداد فضل الله تعالى على من يغتنم الأوقات الفاضلة(5).
سادساً: الحرص على اغتنام أوقات غفلات الناس:
إن العبادة لها أجر عظيم، حيث تعد من أعمال الجهاد في سبيل الله، لأن النفس تأنس حين تجد من حولها يشاركها نفس الأعمال، فإذا غفل الناس وانساقوا وراء أمر من أمور الدنيا، فإن نفس المؤمن تبقى وحيدة في ميدان الطاعة والجهاد، وهنا يكون أجرها عظيماً عند الله تعالى، ففي صحيح مسلم عن مَعْقِل بن يَسَار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العِبَادة في الهَرْج كهجرة إليَّ».
سابعاً: محاسبة النفس على الأوقات التي مرت في غير طاعة:
في صحيح الجامع عن معاذ بن جبل أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «ليس يَتَحَسَّرُ أهلُ الجنَّةِ على شيءٍ إلَّا على ساعةٍ مرَّتْ بهم لم يذكروا اللهَ عزَّ وجلَّ فيها»، فعلينا أن نبادر إلى مَلء الأوقات بالعبادات والطاعات حتى نفوز بأعلى الجنات، ولا نلجأ إلى الحسرات.
ثامناً: عدم سب الزمان:
لا ينبغي أن يلعن الإنسان زمانه، بسبب ما أصابه فيه، فإن مسبب الأسباب هو الله، وقد حذر الله من ذلك، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يُؤْذِينِي ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهارَ».
ولو أننا راجعنا أنفسنا لوجدنا أن أخطاءنا التي نملأ بها الزمان هي التي تستحق المعاتبة وليس الزمان نفسه، وصدق الشافعي حيث يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وهكذا يتبين لنا أن الواجب علينا تجاه أوقاتنا أن نغتنمها ولا نضيعها، وأن نحرص على زيادة استثمار الأوقات الفاضلة فيها، وأن نحاسب أنفسنا على ما فات منها، وأن نحسن تنظيم ما بقي.
_________________
(1) منبر الجمعة، حسن البنا، ص 53.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (10248).
(3) ذيل طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 145).
(4) صحيح ابن حبان (1/ 534).
(5) الوقت في حياة المسلم، د. يوسف القرضاوي، ص 22.