بين حين وآخر، تطفو على السطح جماعات فكرية تشكك في العقيدة الإسلامية من باب الاجتهاد، تتنكر للسُّنة النبوية كأحد مصادر الشرع، وتدعو لهدم التراث فوق أصحابه، وتناصب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم العداء، وقراءة القرآن بشكل «حداثي» يوافق العصر ويخاصم منهج السلف في الفهم والتأويل، الأقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويعد مركز «تكوين الفكر العربي» وأنشطته الإعلامية جزءاً من حالة «التنوير» الجديدة التي ترفع شعارات إتاحة النقاش حول قضايا التراث الإسلامي، والظهور كامتداد لتيار النهضة الذي ساد حتى مطلع القرن العشرين، لكن المجتمع العربي وليس المصري فحسب، تصدى لأنشطة «تكوين» مبكرًا وفور انطلاقه، في مايو الماضي، إلى جانب بلاغات في تمويله المشبوه، وأغراضه في تشويه الدين.
العلمانيون يرفعون راية «تجديد الخطاب الديني» ويبطنون هدم الدين نفسه
في السطور التالية، يدور حوار «المجتمع» مع المفكر الإسلامي د. كمال حبيب، الذي يتحدث عن خطورة تلك الرايات المتطرفة تحت ستار «التجديد الديني».
كيف تنظر لمنطلقات المشاريع العلمانية وأحدثها «تكوين»؟
– استغل العلمانيون حالة الفراغ الروحي لدى الشباب العربي بعد التراجع الحاد في تأثير تيار الجماعات الإسلامية الإحيائية؛ التربوي والروحي، بعد ثورات «الربيع العربي».
والحقيقة أن العلمانيين يرفعون راية «التنوير وتجديد الخطاب الديني»، ويبطنون هدم الدين نفسه؛ على سبيل المثال سنجد بين قادة «تكوين» من دعا لتأويل الآية القرآنية: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران: 19) بأنها الديانات الإبراهيمية عموماً، وليس دين الإسلام، بل نرى من يحاول التشكيك في عقيدة اليوم الآخر ويسخر من الحساب في البرزخ، وهم يطعنون بالصحابة وآل البيت، وكتب أحد أبرز أعضاء مجلس إدارة «تكوين» مقالاً بعنوان: «هل ضاع من القرآن شيء؟»، وهو تشكيك صريح في قول الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
لهذا ينظر الناس لقادة تكوين كعلمانيين أصوليين معادين للدين، وقوة تمزيق للمجتمع تقوم على آلة إعلامية ضخمة لنشر أفكارها، وقد ارتدت عليهم لاحقًا بفضائح جهلهم، فهم أبناء سيد القمني المشكك الإلحادي، وهم أرباب مخابرات أجنبية يشبهون ألبرتو فرنانديز الكوبي الذي سعى عبر معهد الشرق الأوسط للهجوم على الإسلام وترسيخ اتفاقيات «إبرام» لإزاحة الفواصل، ثم تأكيد استعلاء صهيوني يهودي واستخدام العرب كخدم للمشروع وليس لهم رأس تُرفع.
ولماذا ربطتم بين أمريكا ومشروع هدم التراث؟
– هؤلاء يقودون طريقة تفكير تنبذ الأديان كلها والدين الإسلامي خصوصا كأحد أهم مصادر القوة الروحية التي تجعل المنطقة تستعصي على التطبيع مع اليهود، وأمريكا اليوم تخترع ديناً وثقافة وهوية جديدة تحت لافتة «التجديد» بدلاً من ركود الثقافة العربية القديمة، لإعادة تموضع «إسرائيل» وفق قواعد جغرافية واجتماعية، وكأنها تعيد هندسة المنطقة العربية فكرياً لخدمة مصالحها، ومحاولتها تلك تتوقف على عملائها في المنطقة والذين يرفعون راية التجديد.
الدين الإسلامي أحد أهم مصادر القوة الروحية التي تجعل المنطقة تستعصي على اليهود
يتناسى هؤلاء حضارة الإسلام التي قامت قبل قرون بأساسها الروحي المتين من وحي السماء والسُّنة النبوية وعلومها ومدارس فقهية وشعوب قامت على ضفافها، وهذا تراث راسخ في القلوب لا يُمحى، وبالتالي فمن يشاركون في معركة أصفهم بـ«معذبي الأرض» بتعبير فرانز فانون، لأنهم يعملون ضد هوية أمتهم، وستظل أزمة الاغتراب تحيطهم، وهم ليسوا الليبراليين الأقدم كطه حسين، وعبدالعزيز فهمي، وغيرهم، الذين على تأثرهم بالغرب كانوا يعلمون أن الإسلام وحي مقدس، وعام 1911م لما قام المؤتمر القبطي تم مواجهته فوراً، وأصبح «المؤتمر المصري»؛ لأن الإسلام روح الأمة، وكثير منهم راجع آراءه القديمة التي حملت نزعة التشكيك.
أما من نراهم اليوم فهم «فاقدو الشيء»، ولا يمتلكون العلم والتأسيس المعرفي للاجتهاد ومعرفة المصطلحات الإسلامية ومنطلقاتها ومقاصدها، ولا يعوّل عليهم للتجديد الديني، بل هم معاول هدم، وبعضهم ينتحي لجهة الإلحاد شبه المطلق الذي يغيب معه اليقين، فيسقط أتباعه فريسة كراهية النفس وفقدان الهدف من الحياة والانتحار معنوياً ومادياً.
في كتابكم «الأيديولوجيا الفاتنة» تحذير من فتنة «التكفير» بين طرفي التطرف العلماني والإرهابي، حدثنا عن ذلك.
– نحن في عالمنا اليوم لا نريد أن نضع المدنية في صدام مع الشريعة، ولا أن نميّع الدين لإرضاء أهل الكتاب، فهذا إهدار للعقيدة وتناقض صريح مع القرآن الذي يؤكد أن دخول الجنة لا يمكن بغير توحيد الله واتباع رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما ذكرناه لا يعني إشاعة التكفير ومحاربة الآخر غير المحارب، فالإسلام هو أول دين يفتح لغير من يؤمن بعقيدته ترتيباً لأوضاعه القانونية ويتيح التواصل معه في النطاق الاجتماعي وحقوق المواطنة الآمنة، وكان ميثاق المدينة مبنياً على حسن الجوار والدفاع المشترك، كما لم ينهنا ربنا عن الذين لم يقاتلونا أن نتواد معهم ونحسن لهم، وقد كان اليهود يلجؤون للنبي صلى الله عليه وسلم لاسترداد حقوقهم من مسلمين.
ففكرة التكفير ليست حجة للهجوم على الإسلام؛ لأنها تدور في نطاق العقيدة، أما شراكتنا في الوطن فهي أساس الحياة المدنية التي قال بها فقهاء المسلمين، ونادى بها ديننا السمح.
استغل العلمانيون تأويلات خاطئة من قبل تيار مغلق فكرياً استقطعت فتاوى ابن تيمية وغيره من عصرها، وقد شهد ابن تيمية سقوط الخلافة الإسلامية ببغداد ومقدم التتار ووحشيته، وهنا مناط كبير لاجتهاد العلماء في تأويل الفتوى لكل عصر.
الولايات المتحدة وعملاؤها يخترعون ديناً وثقافة وهوية جديدة تحت لافتة «التجديد»
كيف نواجه دعوات التنويريين الجدد؟
– عبر تيار علمي يفهم تراث الأمة ويستوعبه، مع وقف الهجوم العدمي على التراث الإسلامي من كل نابتة انتهازية ممن لا يميزون بين الصراع السياسي مع بعض تيارات الإسلاميين، وبين الهجوم على الإسلام ذاته وعلى ثوابته خاصة السُّنة النبوية ورموز الأمة المجمع عليهم كالبخاري والأئمة الأربعة ومدارسهم الفقهية.
ما «التجديد الديني» الذي يحيي الأمة ولا يهدمها؟
– يجب أن يصبح مفهوم التجديد الديني متجهاً نحو الحفاظ على ما هو قائم وحمايته والنظر فيه ومراجعته وتحديث ما يتوافق مع العصر ولا يخل بالثوابت، وليس التجديد بمعنى التبديد والهدم.
ولا سبيل لأمتنا للنهوض بغير العودة لكتاب الله مرجعية وفهماً واشتغالاً وحفظاً وتفسيراً ومزاوجة مع آيات الكون المفتوحة، يقول الله سبحانه: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء إلي صراط مستقيم) (الشورى: 52).
وقد دانت الدنيا في سنوات قليلة لرجال صنعهم ذلك الكتاب العزيز، ولا تزال البشرية ورغم تقدمها في أزمة وجود صنعتها روح الحضارة الغربية المادية، وتحتاج لفهم رؤية الإسلام الحضارية التي تخرجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
أما التجديد وتمحيص اجتهادات الفقهاء الأوائل فيجب أن يكون وفق أدوات العلم الإسلامية وبحميمية لا مقاطعة مع التراث، فمن ليس له ماض لن يكون له حاضر أو مستقبل.