إن من إكرام الله تعالى لعباده أن جعل لهم الأجر العظيم والثواب الجزيل على أعمال واجبة عليهم بمقتضى وجودهم في الحياة، فكل من يعيش في هذه الحياة يلزمه أن يسعى فيها لكسب رزقه، حتى يستطيع أن يأكل ويشرب ويلبس ويتداوى ويكفي نفسه وأهله، وهنا يأتي الكرم الإلهي بأن يجعل هذه الأعمال من باب العبادة والتقرب إليه بشرط أن تكون النية فيها خالصة والمعصية عنها بعيدة، فكيف يكون السعي لكسب الرزق عبادة يثاب عليها المسلم؟
الله تعالى يأمر بالسعي
لقد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد الحث على السعي لكسب الرزق، حيث قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)، وقال عز وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، وقال سبحانه: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61).
النبي يحث على السعي
روى البخاري عن المِقدام: أن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ»، والحِكمةُ في تخصيصِ داودَ بالذِّكرِ أنَّ اقتصارَه في أكلِه على ما يَعمَلُه بيدِه هو الطريقِ الأفضلِ، لأنه كان ملِكاً، ويمكن له أن يأمر من يشاء في مملكته بإطعامه؛ فالأَولى لِمَن هو دونَه أنْ يَسعى بمِثلِ ما سعَى نبيُّ اللهِ عليه السلامُ، وبمِثلِه كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الرَّعيِ ونحوِه؛ فأطيبُ الكَسبِ ما كان بعمَلِ اليَدِ، وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه»(1).
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ضرورة السعي لكسب الرزق، وعدم اللجوء إلى التسول في ذلك، فبيّن أن العمَلَ مهْما كان نوعُه فهو أفضل مِن سؤالِ النَّاسِ وإراقةِ ماءِ الوجْه لهم، وأنَّه مهْما يكُنْ شاقًّا عَنيفًا فهو أرحَمُ مِن مَذلَّةِ السُّؤالِ.
فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه»؛ ففي الحديث حض على السعي لكسب الرزق حتى وإن كان مهيناً، فإن الإهانة فيه أهون من التذلل للناس بالمسألة.
بل إن السعي لكسب الرزق يحقق ثواب الصدقة؛ فقد روى البخاري، ومسلم عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ»، قال النووي: هذا الحديث فيه فضيلةُ الغرس، وفضيلة الزرع، وأن أجر فاعلي ذلك مستمرٌّ ما دام الغراسُ والزرع، وما تولد منه إلى يوم القيامة(2).
ومن السبل التي حرص الرسول صلى الله عليه وسلم من خلالها على الدعوة إلى السعي لكسب الرزق أن فتح المجال أمام إحياء الأرض الموات، فقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أحيا أرضًا ميتةً فله بها أجرٌ، وما أكله العوافي منها فهو له صدقةٌ»، ففي هذا الحديث حث على العمل وعمارة الأرض بالزرع والبناء ونحوهما، وبَيَّن أنه لا ينتفع أحد من الخلق بأثر هذا العمل إلا كان للعامل أجر وصدقة.
السعي لكسب الرزق جهاد في سبيل الله
لقد عَدَّ الإسلام البحث عن العمل والسعي في طلب الرزق الحلال من أنواع الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) (المزمل: 20)؛ قال الإمام النسفي: «يَضْرِبُونَ»: يسافرون، و«يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ»: رزقه بالتجارة، فسوَّى بين المجاهد والمكتسب؛ لأنَّ كسب الحلال جهاد(3).
وروى الإمام الطبراني عن كعب بن عُجرة قال: مرَّ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ، فرأى أصحَابُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَلَدِه ونشاطِهِ، فقالوا: يا رسولَ الله، لوْ كانَ هذا في سبيلِ الله؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنْ كانَ خرج يَسْعى على وَلَدِه صغاراً فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرجَ يسْعى على أبوينِ شَيْخَينِ كبيرَينِ فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خَرج يَسْعى على نفْسِه يَعَفُّها فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خرجَ يَسْعى رياءً ومُفاخَرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ»(4).
السعي لكسب الرزق يسهم في تكفير السيئات
أخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أمسى كالاً من عمل يديه أمسى مغفورا له»، وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، وأبو نعيم في الحلية بسند فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة»، قالوا: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: «الهموم في طلب المعيشة».
ولا شك أن من أنفق على عياله وأقاربه أو غيرهم وسعى في كسب الحلال لهم بنية صادقة فهو مأجور من الله تعالى؛ لما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك».
__________________________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 213).
(3) مدارك التنزيل وحقائق التأويل (3/ 560).
(4) المعجم الكبير: للطبراني (282)، وصححه الألباني.