كم من فتن تشتعل في مجتمع المسلمين، وكم من صراعات، وكم من بيوت تسقط، وعلاقات تنهدم، وأبرياء يدفعون الثمن بسبب إطلاق اللسان دون رادع أو خوف من الله تعالى أو تقوى أو تحرٍّ للدقة أو التثبت من المصدر، أو معرفة ما يجب أن يقال وما يجب أن نكف عنه الألسنة طالما أنه لن ينبني عليها عمل في صالح المسلمين، أو أن ضرره أكبر من نفعه، وآفة المجتمعات الكذب وعدم التثبت في نقل الأخبار ونشر الشائعات.
يشير النووي إلى ما يعين المتكلم على حفظ لسانه، فيقول: وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام، أن يتدبره في نفسه قبل نطقه، فإن ظهرت مصلحته تكلم، وإلا أمسك(1).
والأصل عند المسلم كف اللسان إلا فيما ينفع، فهو يفكر في الكلمة قبل أن يلقيها فيصنع بها مشكلة لا يمكن تداركها فيما بعد، فمنع المشكلة أولى بمنع الكلام إلا فيما ينفع الفرد والمجتمع، فحين سأل عقبة بن عامر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» (أخرجه الترمذي)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت» (رواه البخاري)، فالأصل عند المسلم الصمت، والاستثناء هو الكلام فيما ينفع ليس أكثر، وفي كف اللسان عن المسلمين مسائل:
أولاً: المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده:
من أهم صفات المسلم أن يحفظ أخاه المسلم ويكف عنه شره ولو بكلمة، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجَر ما نهى الله عنه» (متفق عليه)، ويحذر الله عز وجل من أذية المسلم بغير ما فيه والادعاء عليه كذباً بتهم كاذبة فيقول تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) (الأحزاب: 58).
فالعلامة الظاهرة للمسلم كخلق واضح أمام الناس، هي سلامتهم من لسانه بالأذى بالقول، وبيده بالأذى المادي؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)؛ قال الطبري: الذين يحبون أن يذيع الزنى في الذين صدّقوا بالله ورسوله ويظهر ذلك فيهم.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «.. وَأَيَّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ، وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ سَبَّهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِإِنْفَاذِ مَا قَالَ..».
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ ذَكَرَ امْرَءًا بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ فِيهِ» (رواه الطبراني في الكبير).
ثانياً: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه:
ومن آفات اللسان أن يتحدث المسلم فيما لا يعنيه ويتدخل فيما لا ينبني عليه عمل ينفع المسلمين أو ينفعه هو شخصياً، ومن حسن إسلام المرء، أي: من جملة محاسن إسلام الإنسان، وكمال إيمانه: تركه ما لا يُهمه من شؤون الدنيا، سواء من قول أو فعل.
قال ابن تيمية رحمه الله: ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه(2).
وقيل: فإن اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور، سَلِمَ من شر عظيم، والسلامة من الشر خير(3).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي: إن من لم يترك ما لا يعنيه، فإنه مسيء في إسلامه(4).
وقال ابن القيم: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: «من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه»، فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمة شافية في الورع(5).
وقد قال مالك ابن دينار: إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهناً في بدنك، وحرماناً في رزقك، فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك، فكلام الشخص فيما لا يعنيه؛ يقسى القلب، ويوهن البدن، ويعسر أسباب الرزق.
ورُوي أن قسَّ بن ساعدة، وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةَ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.
وأخرج الترمذي من حديث أنس، قال: توفي رجل من أصحابه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أو لا تدري؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه» (صححه الألباني)، ومن ترك المسلم ما لا يعنيه أن يترك الغيبة، والنميمة بين الناس، والسعي بينهم بالوقيعة وما إلى ذلك من الأعمال غير الأخلاقية.
ثالثاً: زلات اللسان وحصائد الألسنة:
للكلمة عند المسلم خطورة كبيرة، فهي قد ترفعه لأعلى الجنان إن كانت في موضعها، وقد تهوي به في جهنم دون أن يلقي لها بالاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه» (رواه الترمذي)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» (متفق عليه)، وقال لمعاذ: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟»، قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: «كف عليك هذا»، فقلت: يا نبي الله، وإنا لموآخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (رواه احمد والترمذي).
ومن حصائد الألسنة التي يستهين بها الشباب هذه الأيام أن يسب أحدهم والدي الآخر من باب الدعابة فيرد الآخر السب بما هو أكثر، والسخرية من خلق الله ثم يدعي أنه مجرد مزاح، ومنها كذلك الكذب في القول ليضحك المستمع، وهي أحاديث وتصرفات لا تليق بمسلم يقع على عاتقه مهمة هداية العالم ورفع راية التوحيد وواجب عليه تأليف القلوب لا تفريقها، فيقول تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور: 24)، وقال سبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس: 65).
رابعاً: قول الزور وشهادة الزور:
شدد كتاب الله عز وجل وحذر من شهادة الزور وقول الزور، فقال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج 30)، وقال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان 72)، وقال سبحانه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) (الإسراء: 36).
وقد مر بنا جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تحذر من قول الزور وتنذر أصحابه بالعذاب، ومن قول الزور التقول على النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يقل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقوا الحديثَ عنِّي إلَّا ما علِمتُمْ فمَن كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتَبوَّأْ مَقعدَهُ مِن النَّارِ، ومَن قال في القرآنِ برأيِّهِ، فليتَبوَّأْ مَقعدَهُ مِن النَّارِ» (رواه الترمذي).
وقول الزور وشهادة الزور إذا انتشرت بالمجتمع فقد زالت عنه صفة الأمان، وضاع فيه الحق، وكثر فيه المظلومون، ومجتمع بهذه الصفات ليس مجتمعاً من المسلمين، ويكفي أن يدفع قول الزور نبي الإسلام لتكرار التخويف من مآلاته في حديثه صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» (ثلاثاً) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئاً فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور»، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. (متفق عليه).
______________________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي (18/ 328).
(2) مجموع الفتاوى (14/ 482).
(3) توضيح الأحكام (6/ 393).
(4) بهجة قلوب الأبرار (221).
(5) مدارج السالكين (2822).