من أهم وأبرز صفات المؤمن ثقته بربه سبحانه وتعالى في كل الظروف والأحوال، وتتجلى هذه الصفة لديه في أوقات الشدة والكرْب، إذْ يلجأ إلى مولاه لتفريج كربه وتيسير أمره.
وحيث لم يرد مصطلح «الثقة» في القرآن الكريم بلفظه هذا؛ فقد ورد بمصطلحات أخرى مثل: التوكل على الله، اليقين بالله، معية الله، وذلك ما بيَّنه القرآن الكريم في مواقف كثير لأنبيائه وعباده الصالحين، والمؤمن بهم يقتدي وعلى هداهم يسير؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90).
لقد وثق الخليل إبراهيم بربه وتوكل عليه حتى قال فيه سبحانه (وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ) (النجم: 37)، وكان الله معه في أوج محنته؛ (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء 69)، وتوكل عليه نوح عليه السلام؛ (فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) (يونس: 71)، وكان في غاية اليقين بربه ووعده ووعيده؛ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (هود: 39)، ثم كانت النتيجة؛ (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44).
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله لقومه وأصحابه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة 40).
إن الحديث عن التوكل على الله ومعيته والثقة به وبوعده ووعيده وحكمته وتقديره سبحانه لا يمكن أن يحصره كلام أو مقال، ولكن حسبنا الإشارة إلى هذا الأمر المهم في هذا الزمن الصعب، حتى يدرك مَن لم يدرك بعد أن الله تعالى أصدق قيلًا وأعظم حكمة وتقديرًا وأسرع مكرًا.
ألا تدرك أنه سبحانه قد يجعل النجاة في حبائل الهلكة؛ وتأمل: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 7)، ألا ترى عظيم حكمة الله وتقديره حتى جعل ينشأ في بيت فرعون وهو لا يدرك العاقبة: (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (القصص: 8).
نعم قد يغري الله أعداءه بأفعالٍ وتصرفاتٍ يحسبون أنها لهم بينما هي عليهم، ويقدِّرون أنهم بها أعظم بطشًا وأوسع قدرةً بينما فيها حتفهم وهلاكهم؛ وتأمل ما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وانظر إلى التعبير القرآني البليغ في تهديد الله للمنافقين ومن دار في فلكهم بالمكر عليهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ (لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) (الأحزاب: 60)، هذا الإغراء هو من دفع أبا جهل في «بدرٍ» إلى أن يقول، رغم نجاة القافلة: «والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا»، فوصلوا بدرًا وسُقوا كؤوس المنايا وناحت عليهم النوائح بدل القيان، وقال الله فيهم ومحذرًا المؤمنين: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (الأنفال: 47).
ذلك الإغراء هو من جعل فرعون يخرج بقوته وخيلائه ليلحق بموسى ومن معه، وكان في ذلك الخروج هلاكه والعبرة الأبدية بموته وجنوده! فسبحان من جعل للمؤمنين نماذج طيبة وأئمة هدى إلى الجنة؛ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (الأنبياء: 73)، وجعل لأعدائه نماذج خبيثة وأئمة أيضًا ولكن إلى النار؛ (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (القصص: 41).
بناء على كل ما سبقت الإشارة إليه؛ ثِق بالله تعالى ووعده ووعيده وحكمته وتقديره في الرخاء والشدة، ولا تأمن مكر الله، وكن أكثر تصديقًا له سبحانه وما عنده، وثق أنه: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، والعاقبة لله ولعباده المؤمنين قد كتبها (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة: 21).
إنّا رَضِينا بِما في اللّوحِ من قَدَرٍ ما كانَ أظهَرهُ المولى وأخفَاهُ
لأنّ حكمتهُ في الناسِ جاريةٌ حاشاهُ يُسألُ عمّا كان أجراهُ
فإنْ جرى فضلُهُ فيما نؤمّلهُ فالحمدُ للهِ عِرفانًا بنُعماهُ
وإنْ تأخّرَ ما نرجو لخيرتهِ فغايةُ اللُّطفِ فيمَا اختارَهُ اللهُ