كان الفرنج المتجمِّعون في صور قد وردتهم الكثير من الإمدادات من الرِّجال والسلاح، وأهمُّ من ذلك فقد وصلتهم الوعود البابوية بأنَّ ملوك أوروبا قادمون لنجدتهم، وهذا ما جعل مقاومتهم أشدَّ ضراوةً وعنفاً لصلاح الدين حين عاد إليهم، وفيما كانت أوروبا كلُّها تضطرب حماسةً للهجوم على المشرق واسترجاع القدس؛ كان صلاح الدين يحاول فتح صور، وكان قائد المقاومة فيها هو الكونت كونراد دي منتفرات الطامع بعرش المملكة، ولهذا لم يقبل أن يسمح لجاي لوزينان ملك القدس حين أطلقه صلاح الدين من الأسر أن يدخل المدينة، فبقي ستة أشهر في نواحي طرابلس بمعسكرٍ بعيدٍ عنها، يُجَمِّع بعض القوى حوله ليقف بوجه الزَّعيم الجديد مونتفرات، ثم اصطلح الاثنان على الاشتراك في قتال صلاح الدين، وترك مسألة القرار بالعرش للبابوية وملوك أوروبا القادمين. وهكذا قرروا الخروج من صور التي ضاقت بهم لحصار عكا.
وكان صلاح الدين قد عهد بإعادة تحصين عكا وتزويدها بالسِّلاح والمؤن إلى خادمه بهاء الدين قراقوش، الذي جعلها مع قلعتها وسورها تحفةً معماريَّةً منيعةً، وجلب بأمر صلاح الدين المقاتلة إليها، والأسطول من مصر إلى مينائها. وقد خرج الفرنج في رجب 585هـ/ أغسطس 1189م، وسارت مراكبهم معهم بحذائهم في البحر، ولم يؤخذ صلاح الدِّين على غرَّةٍ بمقصدهم إلى عكَّا، فقد كان اليزك (الطلائع والحرس) التي تركها عند صور قد نبَّهت حامية عكَّا لتكون على استعداد، ونزل الفرنج على عكَّا من البر والبحر يحاصرونها بأعدادٍ كبيرةٍ في رجب سنة، وكان رأي صلاح الدين مقاتلة الفرنجة أثناء تحرُّكهم نحو عكَّا؛ لأنهم إن وصلوا إليها لصقوا بأرضها، ولكن قادته لم يرضوا قتالهم إلا إذا وصلوا إلى عكَّا بحجَّة: أنَّ الطريق التي سلكها الفرنجة وعرة وضيقة، ولا يسهل قتالهم فيها، وللإجهاز عليهم دفعةً واحدة، ورغم ذلك رتَّب صلاح الدين للفرنجة كمائن على شكل عصابات من البدو تتخطَّفهم أثناء سيرهم، لكنَّهم تابعوا المسير حتى عسكروا أمامها من البرِّ والبحر، وانقطع اتصال الجيش الإسلامي بها، وكان صلاح الدين قد كتب يستدعي عسكره المتفرِّق أمام أنطاكية وطرابلس وصور، وعلى سواحل مصر في الإسكندرية ودمياط مع أخيه العادل فجاءه منهم الأعداد الغفيرة، ثم جاء جند الشام والجزيرة، وطوَّق بهذا الجند الطوق الفرنجي لعكَّا؛ فكان الفرنج بين حامية المدينة وبين الجند الصَّلاحي (صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد، شاكر مصطفى، ص 285).
يقول العماد: وتبيَّن لنا بالعاقبة: أنَّ الرأي السُّلطاني كان أصوب، فإنَّ نزالهم عند نزولهم صار أصعب. وقد نزل الفرنج على عكَّا منا لبحر إلى البحر. وقامت المعارك سجالاً مع الفرنج كلَّ يوم، وقد كانت تحتدم في بعض الأيام احتداماً كبيراً، ومن أهمِّ المعارك تلك التي أراد المسلمون فيها إدخال المدد من الرِّجال والعتاد إلى عكَّا، فحملوا على الفرنج حتى أزاحوهم عن الأسوار، وأدخلوا بعض الأمراء وأعداداً كبيرةً من الجيوش القادمة من مصر إليها تشدُّ أزرها، وبالمقابل قام الفرنجة قبل وصول بقية الأمداد من مصر بهجمةٍ على المسلمين، هزموهم في أولها؛ حتى وصلوا إلى خيام الملك العادل وإلى خيمة صلاح الدين، وقتلوا مَنْ حولها، ولكن السُّلطان صاح في عسكره: (يا للإسلام!)، وكرَّ معهم على الفرنج؛ الذين هُزموا، وتناولتهم حامية عكَّا بالسِّهام من خلفهم فتشتَّتوا متراجعين. ويؤكد العماد الأصفهاني: أنَّ قتلاهم في تلك الوقعة كانوا بالألوف، وقد عُرفت هذه الوقعة بالوقعة الكبرى.
العلماء الذين شهدوا الوقعة: كان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكَّاري يتولى مقدِّمة القلب في جيش صلاح الدين، كما كان القاضي بهاء الدين بن شدَّاد، والفقيه العماد الأصفهاني مشاركين أيضاً في هذه المعركة، وقاما بوصفها وصفاً دقيقاً كشاهدي عيانٍ لها؛ دون أن يوضِّحا دورهما في المعركة. وكان النصر حليف المسلمين في نهاية هذه المعركة، وتكبد الصليبيون خسائر فادحةً في الأرواح قُدِّرت بعشرة ألاف قتيل، وقد استشهد في هذه المعركة الفقيه ظهير الدين الهكَّاري أخو الفقيه عيسى الهكاري، وكان والياً على بيت المقدس، وقد جمع بين الشَّجاعة والعلم والدِّين، وعندما علم الفقيه عيسى الهكَّاري بنبأ استشهاده؛ أنكر عزاء الناس له قائلاً: “هذا يوم الهناء لا يوم العزاء”، كما استشهد أيضاً في هذه المعركة الفقيه أبو علي بن رواحة عند خيمة صلاح الدين مع جماعة، ويبدو أنَّه كان ممَّن يدافعون عن خيمة صلاح الدين حينما اندفع جماعةٌ من الصليبيين إلى الخيمة يريدون الفتك بالسُّلطان، وكان ضمن القضاة الذين شاركوا في القتال ضدَّ الصليبيين المحاصرين لعكا في عام 586 هـ/ 1192م القاضي المرتضى بن قريش، فكانت له مواقف عديدة في مشاركة المسلمين محاولاتهم في فكِّ الحصار الَّذي ضربه الصليبيون على عكَّا، ولكنَّه استشهد في يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى عام 586هـ/ 1190م رحمه الله.
ولم يكن دور الفقهاء أثناء حصار الصليبيين لعكا في الحملة الصليبية الثالثة يقتصر على حمل السلاح ومقاتلة الصَّليبيين لدفعهم عن عكا، وإنما كانوا يطوفون داخل المعسكر الإسلامي بين الجند ويبثُّون الشَّجاعة في نفوسهم، فالقرَّاء يقرؤون القرآن، ويحذِّرون الجند من الفرار، ويذكرونهم بما أعدَّه الله تعالى للشهداء في الجنَّة من جزاء عظيم، ويستشهدون في ذلك بآيات الله الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة؛ ليرفعوا من روحهم المعنويَّة، ويزيدوا من تصميمهم ومصابرتهم في الجهاد، وذلك شأن كلِّ المعارك والفتوح؛ الَّتي كان صلاح الدين يخوضها (دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، آسيا نقلي، ص 163).
في تلك الظروف العصيبة، والصَّليبيون يهددون عكَّا تهديداً شديداً، وتكاد أن تقع في أيديهم، عرض صلاح الدين على الخليفة العباسي الحضور بشخصه لإثارة الحماسة في المسلمين على أن يتنازل له عن جميع بلاده، ولكن الخليفة لم يكن متحمِّساً للانتقال من قصوره؛ ليعيش في ميادين القتال، فلم يردَّ على دعوة صلاح الدين، واكتفى بأن أرسل إليه عدَّة أحمال من النفط، وتوقيع بمال له عند بعض التُّجار، مما جعل صلاح الدين يستاء من تصرفه.
وكان من المفروض على الخليفة أن يقود الصِّراع مع الصليبيين رغبةً في الجهاد بنفسه وماله في سبيل الله، ومحاولةً منه لإعادة دور منصب الخلافة في واقع الأمَّة، ممَّا يترتب عليه من أثرٍ معنويٍّ على المجاهدين، كما أنه حافزٌ كبيرٌ لكلِّ المسلمين للمشاركة في الحملة ضدَّ الغزو الصليبي الكبير. ومما يسجَّل لصلاح الدين عظمة نفسه المترفِّعة عن الدنيا والمطامع؛ حيث عرض على الخليفة التنازل عن كلِّ البلاد الَّتي يملكها.
دعا السلطان صلاح الدين بعد انتهاء المعركة لعقد مجلس الشورى حضره أرباب المشورة والأمراء، أمثال القاضي ابن شدَّاد والعماد الأصفهاني الكاتب، وذلك للبتّ في أمر عكا (مفرج الكروب، جمال بن واصل، (2/ 304). وبعد مشاورات ومناقشات كثيرة انقسم أعضاء المجلس إلى فريقين، فقد أيد الفريق الأول السُّلطان في استمرار القتال قبل أن يجمع العدو شمله ويسعفه البحر بالإمداد، بينما نادى المعارضون باتجاه العسكر إلى الخروبة حتى يستجم قائلين: وما نزلنا عن الخيل منذ خمسين يوماً، وما طعمنا في هذه الليالي نوماً، ولا سمعنا لطارق طيف غمضاً، وقد كلَّت الضوامر، وفلَّت البواتر، وملَّت العساكر، وهذا الشتاء قد أقبل، والعدوُّ قد استقتل، وهؤلاء لا يتمكَّن منهم إلا بالجمع الجم والسَّيل لا يغلبه غير الخضم، والصواب أن نصابرهم هذه الشتوة ونستجدَّ لنا ولخيلنا القوَّة، ونتأخر عن هذه المنزلة؛ لتحصيل هذه المصلحة المؤمَّلة. .. والصَّواب الأخذ بالاحتياط، وتقديم الكتب والرسل إلى الأطراف والأوساط، ومكاتبة دار الإسلام بالشَّام، فإنَّ المسلمين لاشكَّ ينجدون ويقومون بالنُّصرة، ولا يقعدون، فحينئذٍ ينتهي أمد المصابرة، ونصمِّم على المكابرة مع المكاثرة، ونفاتحهم قبل انفتاح البحر، ونغاديهم ونراوحهم على اقتراح القهر، وننسفهم ولو أنهم جبال.
وتغلب الفريق الثاني (المعارضون)، واضطَّر صلاح الدين أن ينزل عند رأيهم، وانتقل العسكر إلى الخروبة في رابع شهر رمضان 585هـ/ 1189م، وهناك أصيب الفقيه عيسى الهكَّاري بمرضٍ أدَّى إلى وفاته؛ وهو في ركاب صلاح الدين مستعداً كعادته لتلبية نداء الجهاد في سبيل الله. وقد جاء رحيل السُّلطان وعساكره عن عكَّا فرصةً كبيرة للصَّليبيين انتهزوها، وأحكموا حصارهم حول عكَّا وحصنوا أنفسهم، واتَّخذوا كلَّ الاحتياطات الَّلازمة لحماية أنفسهم من صلاح الدين، وقد نتج عن هذا ضياع عكَّا في النهاية بعد حصار عامين كاملين في السابع عشر جمادى الآخرة 587 هـ/ 12 يوليو 1191م (دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى، ص 165).
____________________________
1- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.
2- صلاح الدين الفارس المجاهد والملك الزاهد المفترى عليه، شاكر مصطفى، دار القلم دمشق.
3- صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي، د. علي محمد الصَّلاَّبي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، الطبعة الأولى 1428هـ/ 2007 م.
4- دور الفقهاء والعلماء في الجهاد ضد الصليبيين خلال الحركة الصليبية، د. أسيا سليمان نقلي، مكتبة العبيكان 2002م.
5- النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد، تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سورية، الطبعة الأولى 2003 م.
6- تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم حسن، دار الجيل بيروت، الطبعة الثالثة عشرة 1411هـ/ 1991م.
7- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418هـ/ 1997م.
8- صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.