في الحياة الدنيا لا تنجح القضايا لعدالتها، بل لقوة أصحابها معنويًّا وماديًّا؛ فكثير من القضايا العادلة تخسر؛ حتى لو تعاطف معها الناس؛ إذ إن التعاطف وحده لا يفيد الشيء الكثير، أو لا يكفي.
فتعاطف الأمة مع الإمام الحسين الشهيد رضي الله عنه لم يمنع عنه الاستشهاد؛ فالفرزدق بن غالب الشاعر حينما قال له الإمام الحسين: بيِّن لنا نبأ الناس خلفك، فقال له الفرزدق: من الخبير سألت؛ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء(1).
والأقوياء في العالم هم من يفرضون نظامهم حتى ولو كان ضد مصالح غالبية البشر، ويفيد فئات قليلة جدًّا.
فالربا -مثلاً- أصبح عصب الاقتصاد العالمي، وهو يصب في صالح فئة قليلة جدًّا من الأغنياء، ومضر بعموم البشر، والعري والشذوذ والإلحاد أصبحوا العناوين العريضة لما يسمى بحقوق الإنسان.
ومع فرض النظام يتم فرض الرؤية، وكل من يخالف تلك الرؤية فهو متهم، فالغرب يحاول فرض رؤيته من خلال ما أسماه العولمة؛ وهي لا تعني سوى التبعية التامة له في السياسة والاقتصاد والاجتماع.. إلخ.
حتى إنه عمل على عولمة فكرة الإرهاب، وإلصاقها بالمسلمين؛ فالمسلم هو المختص بالأعمال الإرهابية، أو مشروع إرهابي محتمل، والآخرون برآء من ذلك مهما فعلوا.
والإرهاب صنيعة غربية بحتة؛ فالحروب العالمية هم صناعها وبقية العالم وقودها، وهم من أحدثوا الفتن بين الدول بعضها بعضاً، وتفننوا في إشعال الحروب الأهلية بين الدول، وهم صناع الانقلابات في دول العالم التي يخرج رؤساؤها عن الخط المرسوم لهم من قِبل تلك الدول، وهم صنَّاع الطواغيت الذين يقهرون شعوبهم، وينفذون الأجندات الغربية، ويكونون رعاة لمصالح الغرب أكثر من رعايتهم لمصالح بلدانهم، ومعهم يطأ الغرب على مبادئه وشعاراته؛ فلا تهمه الديمقراطية ولا حقوق الإنسان.
فإن تمكَّنت الشعوب من إزاحة الطغاة مالأ الغرب تلك الشعوب، وراح يمدحها إلى أن يجد الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم من خلال عملائه الذين يصنعهم أو يشتريهم أو يبتزهم لتنفيذ أجنداتهم والحفاظ على مصالحهم، ولذا فإن الفساد قد عم الأرض بسبب أفعالهم؛ وعلى قدر سرعة تقدم البشرية في التكنولوجيا فإنها تنحدر في مهاوي الانحراف السلوكي والإيماني.
وأمريكا والغرب بأفعالهم ينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة: 205).
وظهور هذا الفساد أصبح باديًا للعيان، ولا نحتاج للتفتيش عنه؛ قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41)، فَعُلُوُّهم في الأرض علو فساد وإفساد لا عُلو رحمة وإقساط.
ومن ذلك أنهم حاولوا عولمة محاربة الإرهاب؛ فلم يكفهم عولمة الإرهاب من خلال آلتهم الإعلامية التي جعلت المسلمين هم الإرهابيين دون باقي البشر، وألصقت بهم تلك التهمة رغم أنهم الضحايا، فهم الذين تم احتلال أراضيهم، واستباحة أعراضهم، وسرقة ثرواتهم، واستعباد أبنائهم، فلما حاولوا المقاومة ورد البغي شنعوا عليهم، وحاولوا بث روح الفرقة والضعف بين صفوف الأمة، وعملوا على التنفير من فكرة الجهاد، وإلصاق الشناعات به وبرجاله.
وهم لا يعلمون أن هذه الأمة لا تنطفئ شعلة الجهاد فيها أبدًا؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلاَثَةٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ وَلاَ تُخْرِجْهُ مِنَ الإِسْلاَمِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِيَ اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ لاَ يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ، وَالإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ»(2).
وأراد به فرضًا باقيًّا، وهو فرض على الكفاية؛ لأنه ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه، وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام؛ فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه؛ لأن الوجوب على الكل، ولأن في اشتغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية، إلا أن يكون النفير عامًّا فحينئذ يصير من فروض الأعيان(3).
وفكرة الجهاد تنغص على الغرب حياته؛ فهو لا يكاد يهنأ له عيش؛ فالأوروبيون احتلوا القارتين الأمريكيتين وحكموهما وصبغوهما بصبغتهم، ولم تعد هناك مقاومة لهم، وذابت الشعوب الهندية في المحتل الغازي، لكن هذا لم يحدث في منطقتنا رغم الخذلان لأهل المقاومة والجهاد.
هذا الخذلان الذي يعتبر الإنباء عنه من أعلام النبوة؛ إذ قال ﷺ: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»، قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ(4).
والخذلان يأتي من الأنظمة أكثر مما يأتي من الشعوب؛ فالأنظمة الغربية في غالبها مع الكيان الصهيوني قلبًا وقالبًا، تمده بالأسلحة، وتحميه سياسيًّا، وتنشر رؤيته عبر الإعلام، وتترصد للمظاهرات التي تخرج ضده على أراضيها.
وهذا هو التحدي أمام عولمة المقاومة؛ فقد نجح الغرب في عولمة الإرهاب وفشلنا في عولمة المقاومة، فهناك ضمير إنساني متيقظ عند بعض الشرائح في الغرب، يسيئه ما يراه من انتهاك للإنسانية في فلسطين باسم الدفاع عن النفس من قِبل الكيان الصهيوني، وهذه الشرائح ترى حق الفلسطيني في مقاومة المحتل، لكن صوتها ما زال خافتًا ومخنوقًا أمام الآلة الإعلامية الجبارة المناصرة لرؤية الكيان الصهيوني في الإبادة والتنكيل.
ويوم أن ننجح في عولمة المقاومة فذلك اليوم يعني أننا انعتقنا من التبعية للغرب واخترنا لأنفسنا نهجًا وخطًّا يخالف نهج الغرب وخطه.
_______________________
(1) تاريخ الطبري (4/ 290).
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب: فِي الْغَزْوِ مَعَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، ح(2532)، وضعَّفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود.
(3) نصب الراية للزيلعي، (4/ 221) باختصار.
(4) أخرجه البخاري في المناقب، ح(3641) عن معاوية بن أبي سفيان.