لا يوجد مجتمع بغير فقراء مهما بلغت درجة إيمان هذا المجتمع واجتهاده، فتلك سُنة الله في الأرض أن يجعل الناس درجات اختباراً لبعضهم بعضاً، منهم الغني ومنهم الفقير.
والفقر مقبول وواجب الرضا عليه ما لم يكن نتيجة ظلم من المسؤول يقع على الناس، فعليهم في تلك الحالة مقاومته حتى ينتزعوا حقوقهم من بين يديه، ويقيموا العدل ليعيشوا حياة كريمة تليق بمكانتهم بين الأمم، فالمسلم عزيز ولا يخشى إلا الله سبحانه، وتأبى نفسه الرضوخ لغير خالقه أو الخوف منه فيسكت عن حقه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان تعامله بالفقراء رحمة وصوناً لكرامتهم، وإيجابية جهلتها حتى الأمة اليوم فانتشرت ظاهرة التسول، واستمرأ الناس سؤال بعضهم بعضاً.
وفي عهد الرأسمالية المتوحشة، ازدادت نسبة الفقراء في العالم عامة وفي بلاد المسلمين خاصة، فأصبحوا يقضون يومهم بأقل من دولار واحد(1)، والبعض لا يملك هذا الجزء من الدولار فيبيت جائعاً بين المسلمين دون أن يدري أحدهم عنه شيئاً.
وقد وضع الإسلام تشريعات طبقها النبي صلى الله عليه وسلم لعلاج مشكلة الفقر المدقع بين المسلمين، وبما يحفظ كرامتهم.
رحمته بالفقراء
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ..» (رواه مسلم)، فالفقر قد يكون فتنة لصاحبه، إذ كيف يتحمل رجل لا يجد قوت يومه، أو يرى عياله جوعى وهو لا يملك لهم من أمرهم شيئاً؟! أو كيف برجل يقارن بينه وبين الأغنياء حين يقرص الجوع بطون أبنائه؟!
لقد استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من شر الفقر فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ» (أخرجه أبو داود)، ويقول لأبي ذر: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» (صحيح مسلم)، وذلك بالرغم من أن أبا ذر كان من أكثر الناس فقراً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم فقيرًا، ورغم فقره فلم يرد محتاجاً يوماً، وكذلك كان مجتمع المدينة الذي كان يعيش على الزراعة فيقضون شهوراً في انتظار الحصاد قد لا يجدون ما يأكلونه، ومع ذلك كان يحثهم على الإنفاق ولو بالقليل لاستيعاب المجتمع بعضه بعضاً، قال صلى الله عليه وسلم: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» (رواه البخاري).
ويقول أبو هريرة: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهُنَّ مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء؛ فقال: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ»، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني قال: فعَلِّلِيهم بشيء؛ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنَّا نأكل، فإذا أَهْوَى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ» (رواه مسلم).
علاقته بالفقراء
صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن مسعود، تلك الأسماء من كبار الصحابة كانوا من فقراء المدينة، لم يمنعهم الفقر من تبوؤ المكانة العليا في مجتمع المسلمين دون أن يستنكف النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم ويكونوا من صحابته المقربين.
فعن سعدِ بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستةَ نفرٍ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا (أي نحن السادة وهؤلاء عبيد)، وكنتُ أنا وابن مسعود ورجلٌ مِن هذيل وبلال ورجلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدَّث به نفسَه (يعني ما قال، وهذا يحدث، أي أن الإنسان يقول: لعل مِن المصلحة مؤقتًا أن أجلس أنا وهؤلاء الأغنياء إلى أن يهتدوا ثم أجمعهم مع هؤلاء الفقراء، هكذا خطر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم)، فأنزل الله عز وجل: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الأنعام: 52) (رواه مسلم).
تعامله مع الفقر
لقد تحدث القرآن الكريم في مشكلة الفقر، وأنه قد يكون فتنة للفقراء فيدفعهم لقتل أبنائهم خوفاً من الفقر المحتمل، أو قتلهم لوجود الفقر بالفعل، فقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء: 31)، وقال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين) (البقرة: 155).
والإسلام لم يترك المسألة لأهواء البشر ومبدأ التملك والعرض والطلب والمكسب والخسارة وما إلى ذلك من المفردات الاقتصادية، وإنما كان المبدأ الرباني حاضراً في كافة القرارات المالية الخاصة بالفقراء حفظاً لكرامتهم واختباراً للأغنياء، وليس مطلوباً من الأغنياء أن يجعلوا الفقراء مثلهم، وإنما المطلوب منهم كفاية حاجاتهم من مال الله الذي استخلفهم فيه، فالقاعدة الإسلامية الأولى: المال مال الله استخلف البعض فيه دون الآخرين، ليس من باب الحب أو التكريم، وإنما من باب الاختبار فيقول تعالى: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه) (الحديد: 7)، ويقول تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33).
وأما القاعدة الثانية فهي توجيه المؤمنين الفقراء للدعاء والاستغفار، فالرازق هو الله، فاللجوء إليه أولى من اللجوء للبشر أو القعود وانتظار الصدقات من هنا وهنا، فيقول تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً {10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) (نوح)، ويقول عز وجل: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3).
وأما وسائل حل مشكلة الفقر في المجتمع الإسلامي فهي كما قال الشيخ يوسف القرضاوي(2):
أولاً: العمل؛ وقد أعلى الإسلام من قيمة العمل والسعي والبحث وبذل الجهد وجعل اليد العليا (التي تعطي) خير من اليد السفلى التي تأخذ.
ثانياً: الزكاة؛ وجعل الشيخ لها شرطاً وهي أن تكفي حاجة الفقراء فلا يضطروا لسؤال الناس، وهي حق لهم فرضه الله على من يستطيع من باب التكافل المجتمعي الإسلامي الفريد.
ثالثاً: الصدقات غير المفروضة؛ وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم ورغب صحابته الكرام في البذل والعطاء والإنفاق وبدأ بنفسه الكريمة فكان أجود الناس.
رابعاً: كفالة الموسرين من الأقارب؛ فأكد النبي صلى الله عليه وسلم على حق القرابة، وصلة الرحم والنفقة على المحتاج من الأهل وجعل الثواب الأعظم لم يتصدق على أقاربه فهي له أجران، أجر صلة الرحم وأجر الصدقة.
______________________________
(1) تقرير الحالة الاجتماعية في العالم 2005م، الصادر عن الأمم المتحدة، ص 68 بتصرف الرابط الإلكتروني:
http://daccessdds.un.org/doc/UNDOC/GEN/N05/418/71/PDF/N0541871.pdf?OpenElement منقول عن د. راغب السرجاني.
(2) من كتاب «مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام» للشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله.