تنقسم الأحكام الفقهية إلى قسمين؛ الأول: أحكام ثابتة لازمة لا تتغير عن حالة واحدة؛ فلا تختلف أحكامها باختلاف الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، وهذا القسم لا يدخل في باب السياسة الشرعية؛ لأن أحكامه ثابتة لازمة لا تخضع للتغيير أو التعديل، أما السياسة الشرعية فهي متغيرة ومتطورة.
والقسم الثاني من الأحكام الفقهية هو: الأحكام الجزئية التي شُرعت لمسائل يتغير مناط الحكم فيها بحسب اقتضاء المصلحة؛ زماناً ومكاناً وحالاً، وهذا القسم تدخل فيه السياسة الشرعية، حيث إنه يشتمل على مسائل ثبتت أحكامها بنص أو إجماع أو قياس أو غير ذلك؛ لكن من شأنها ألا تبقى على حال؛ ومن ثم يتغير الحكم فيها، تبعاً لتغير مناطه من حال إلى حال.
وقد أكد العلماء(1) أن التغيير الذي يحدث في بعض الأحكام الشرعية يرجع السبب فيه إلى أسباب متعددة، منها:
أولاً: تغير العُرف الذي جاء التشريع موافقاً له:
ومن ذلك: إخراج زكاة الفطر في كل بلد من قوت أهلها، ولا يلزم إخراجها من قوت أهل المدينة، تقيداً بما ورد من تكليف النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة بإخراجها من التمر والشعير والأقط والزبيب.
وذلك استناداً إلى ما رواه البخاري، ومسلم، عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قال: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ». «لِأَنَّ هَذَا كَانَ قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَيْسَ قُوتَهُمْ بَلْ يَقْتَاتُونَ غَيْرَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مِمَّا لَا يَقْتَاتُونَهُ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ»(2).
ففي الكفارات جاء الأمر بالإطعام من أوسط ما تطعمون أهليكم، حيث قال تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: 89)، وهنا نقول: إذا كان التشريع في بدايته نزل مراعياً لعرف أهل المدينة؛ فإن هذا العرف إذا تغير في بلد آخر فإن الحكم يتغير مع تغير العرف، فإذا كان ما يقتاته أهل بلد آخر مختلف عن هذه الأصناف فإن الزكاة في هذا البلد تخرج مما يقتاته أهله.
ومما يدل على هذا التغيير ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ، وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ (الحنطة)، قَالَ: أُرَى مُدًّا من هذا يعدل مُدّين»؛ ولهذا فقد أوجب الإسلام على المفتي ألا يصدر حكماً في مسألة إلا إذا كان عالماً بحال المستفتي وواقعه.
ثانياً: زوال المصلحة التي جاء الحكم معللاً بها:
ومن ذلك: إذن النبي صلى الله عليه وسلم للناس في ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، بعد نهيهم عن ذلك وأمرهم بالتصدق بما بقي، فإنه لما كان العام الذي يليه أمرهم بالادخار من غير تحديد المدة.
ففي صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن ضَحَّى مِنكُم، فلا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثالِثَةٍ وبَقِيَ في بَيْتِهِ منه شَيءٌ»، فَلَمَّا كانَ العامُ المُقْبِلُ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ كما فَعَلْنا عامَ الماضِي؟ قالَ: «كُلُوا وأَطْعِمُوا وادَّخِرُوا؛ فإنَّ ذلكَ العامَ كانَ بالنَّاسِ جَهْدٌ، فأرَدْتُ أنْ تُعِينُوا فيها».
وفي رواية مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما نَهَيْتُكُمْ مِن أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتي دَفَّتْ؛ فَكُلوا وادَّخِرُوا وتَصدَّقُوا»؛ والمقصود بالدافة: المساكين الذين قدموا المدينة، فقد ارتفع الحكم بارتفاع سببه، وهو الرأفة على المساكين.
ففي هذا تأكيد على أن الحكم الأول قد تغير من المنع إلى الإذن بسبب زوال علة المنع(3)؛ والمعنى: أنه نهاهم عن الادخار فوق ثلاث بسبب مواساة الفقراء والتصدق عليهم، وبعد أن وسع الله عليهم ولم توجد ضائقة فلهم أن يدخروا ما بدا لهم.
ثالثاً: تغير الحال التي قُيّد الحكم بها:
ومنه: الإذن بقتال الكفار في العهد المدني دون العهد المكي، على اختلاف أحواله، وهكذا الأحكام التي جاء تشريعها على مراحل اقتضاها اختلاف الأحوال، لا بسبب وجود ناسخ ومنسوخ بينها، فكلها من هذا القبيل.
ومنه أيضاً: ما ورد من أمر سيدنا عثمان رضي الله عنه بالتقاط ضوال الإبل لمصلحة أهلها، مع أن النص جاء آمراً بتركها، ففي صحيح البخاري عن زيد بن خالد الجهني أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل، فقال: «ما لكَ ولَهَا، معهَا سِقَاؤُهَا وحِذَاؤُهَا تَرِدُ المَاءَ، وتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا»؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التقاطها وأمر بتركها، ثم تغيرت الحال وأمر عثمان بالتقاطها، فالأمر بتركها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب غلبة الصلاح في الناس، حيث تترك ضالة الإبل فلا يأخذها أحد حتى يجدها صاحبها، أما في زمن عثمان فقد حصل تغير في حال الناس، أورث خوفاً على أموال الرعية من أن تمتد إليها يد الخيانة، فرأى عثمان أن المصلحة حينئذ في الأمر بالتقاطها وتعريفها كسائر الأموال، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أُعطي ثمنها(4) إذ لم يعد الأمر بتركها يحقق المصلحة منه على الوجه الأصلح.
_________________________
(1) ينظر: المدخل إلى السياسة الشرعية: عبد العال عطوه، ص 45. وينظر: أضواء على السياسة الشرعية: د. سعد العتيبي، ص 89.
(2) مجموع الفتاوى: ابن تيمية (25/ 69).
(3) إكمال المعلم بفوائد مسلم: القاضي عياض (6/ 426).
(4) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: د. يعقوب عبدالوهاب، ص 362.