إن المتتبع لتاريخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين على مدار أكثر من 75 عاماً، يجد سجلاً حافلاً بالإجرام كالقتل والإبادة والمجازر والاستيطان والتهجير وسرقة الأراضي وتهويد القدس والجدار العازل وغيرها الكثير، التي تحصلت على إدانات أممية ودولية، وهذا ينفي جهالة دول التطبيع بتاريخ هذا الاحتلال العنصري القائم على هذه الجرائم.
لقد دعا المجتمع الدولي في قراراته إلى مقاطعة أي نظام عنصري، كما حدث مع نظام جنوب أفريقيا، والثابت أن الاحتلال الصهيوني نظام عنصري، وعليه يجب مقاطعته لأنه قائم على التهجير وسرقة الأراضي والاستيطان، وهي من الجرائم القائمة والمستمرة تحت بصر وسمع المجتمع الدولي، وأي سلوك إجرامي يقوم أساساً على تهجير السكان قسراً، يعد جريمة حرب؛ فالترحيل القسري للسكان من الأراضي الفلسطينية المحتلة يحظره القانون الدولي وفقاً للمادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة (85) من البروتوكول الإضافي الأول.
وتكمن خطورة التطبيع معه في أنه اعتراف بكيان قائم على أساس الاحتلال والاستيطان غير المشروع، ويتجاهل الجرائم الدولية التي ارتكبتها دولة الكيان وجيشها النازي في حق الفلسطينيين منذ نشأتها عام 1948م.
مرتكزات المسؤولية المدنية
الأساس الذي ترتكز إليه المسؤولية الدولية المدنية هو الضرر الذي يمكن أن يصيب أي مجتمع نتيجة ممارسات غير طبيعية في حقه، فكيف إذا كان هذا المجتمع مجتمعاً محتلاً بالقوة وتمارس عليه قوة الاحتلال ممارسات عنصرية كما يحدث للمجتمع الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال الصهيوني، وينكر عليه المجتمع المدني والدولي حقه في الدفاع عن نفسه؛ مما سبب له ضرراً كبيراً انعكس على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وازداد اتساع هذا الضرر عندما قامت العديد من الأنظمة العربية بتوقيع اتفاقات تطبيع مع هذا الاحتلال لتصبح بدورها شريكة في الجرائم التي يرتكبها ضد الفلسطينيين، بدلاً من أن تكون سداً منيعاً أمامه ومقاطعته والوقوف في وجهه حتى يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، سواء المدنية أو السياسية التي أقرتها المواثيق والقرارات الدولية.
وبحسب دراسات قانونية متخصصة، يعتبر التطبيع صورة من صور المشاركة في جريمة قائمة منذ 75 عاماً تتمثل في الاحتلال العسكري الصهيوني لفلسطين، وتستند هذه الدراسات إلى أحكام وقرارات الشرعية الدولية والاتفاقيات الدولية، وأهمها القرار (194) المتعلق بحق العودة للفلسطينيين وتعويضهم، وهو ما تفرضه المسؤولية المدنية على الاحتلال، الذي ضرب بها عرض الحائط وأنكر كذلك كل قرارات الإدانة الدولية لجرائمه التي لم تلقَ أي صدى لديه، ليأتي التطبيع العربي لينفي كل هذه الجرائم والسلوكيات الصادرة عن الكيان الصهيوني، بل ويسعى إلى اعتبارها طبيعية؛ مما يمنح الشرعية لدولة الاحتلال ويحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة التي أقرتها الشرعية الدولية، وأهمها حق تقرير المصير.
ويبقى المتضرر المباشر من هذا التطبيع، الذي قدّم للكيان الصهيوني التنازلات مرة بعد أخرى في مقابل تلاشي الحقوق الفلسطينية عبر إضفاء الشرعية على الاحتلال وجرائمه هو الشعب الفلسطيني، وهي في الحقيقة والعرف الدولي جرائم يعاقب عليها القانون الدولي والإنساني.
مكافأة الجلاد ضد الضحية
يعد التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني انتهاكاً صارخاً لكل قرارات الشرعية الدولية وللحقوق الفلسطينية، واعترافاً ضمنياً من الدول العربية المطبعة بشرعية الاحتلال وممارساته العدوانية وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني وأرضه المغتصبة، وهو جريمة كبرى أقرتها الجامعة العربية والتشريعات الوطنية، وعليه؛ فإن المسؤولية الجنائية والمدنية تقع ضد الكيان كمجرم ومنتهك للحقوق الفلسطينية وفاعل رئيس في الممارسات العدوانية التي تنتهك كل القرارات الدولية والشرعية، وضد دول التطبيع التي تعتبر ضمنياً شريكاً له في جرائمها؛ مما يفرض عليها إلى جانب دولة الكيان تعويض الشعب الفلسطيني عن كل الأضرار التي لحقت به وإعادة حقوقه ومقدراته.
في الوقت الذي لم تجرؤ فيه الدول العربية على الوقوف في وجه دولة الكيان، لإجبارها على إعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني على اعتبار أن الشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية، وأن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، فإن المسؤولية المدنية والأخلاقية على الأقل تقتضي اليوم استخدام سلاح المقاطعة وعدول الدول العربية عن التطبيع، والتزامها بالحفاظ على الثوابت الفلسطينية وتمسكها بالحقوق الفلسطينية وعلى رأسها حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، والضغط على دولة الكيان الصهيوني من خلال قطع العلاقات الدبلوماسية والمبادلات التجارية معها، وتحميلها المسؤولية الكاملة عن الضرر الذي حل بالفلسطينيين نتيجة الاحتلال، خاصة في هذا الوقت الذي تمارس فيه هذه الدولة وجيشها النازي حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني وخاصة في غزة، واستغلال الضغط الخارجي عليها والقرارات الدولية التي صدرت بحقها كالدعاوى المقدمة ضدها في محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، والمظاهرات المساندة للشعب الفلسطيني وقضيته، وتكثيف حملات المناصرة للقضية الفلسطينية واعتبارها القضية المركزية التي لن يتحقق السلام في المنطقة بدونها.
فضلاً عن إيصال هذه الرسالة لدولة الكيان وحليفتها أمريكا وتسجيل موقف عربي مشرف يُكتب في التاريخ بدلاً من خيانتها عبر اللهث وراء التطبيع معها على حساب الدم الفلسطيني.
المسؤولية المدنية العربية
إن المسؤولية المدنية التي تقع على عاتق دول التطبيع أكبر من تلك التي تقع على عاتق الاحتلال، فلا يمكن لهذا الاحتلال الصهيوني ولهذه الدولة العنصرية أن تتجرد من أخلاقها، وأن تعيث في الأرض فساداً، لو أنها وجدت من يقف في وجهها ومناهضتها من قبل الأنظمة العربية وأصحاب الحق الشرعي، لو أنهم اختاروا أن يكونوا صفاً واحداً في مواجهة التكبر الصهيوأمريكي والغربي، وأن يكونوا حلفاً قوياً يقف سداً منيعاً أمام الأخطار التي تحدق بهم، التي لن ينجو منها أحد طالما بقوا على ما هم عليه من التشتت والتيه والضياع، ليكونوا فريسة سهلة للأطماع الصهيونية للتفرد بهم من خلال سياسة «فرق تسد»، أو إجبارهم على التطبيع معم اتقاء شرهم ولو على حساب أبناء عروبتهم وأبناء جلدتهم.
وعليه؛ يجب أن يوحدوا موقفهم ويجمعوا رأيهم ويشكلوا قوة تلزم دولة الكيان ومن يقف خلفها على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التي تضمن لهم تحقيق السلام، وألا ينصاعوا للعصا الأمريكية أو يدوروا في فلك الكيان الصهيوني ومؤامراته من خلال التطبيع معهم.