يدور المعنى العام لللاجئ حول الإنسان الذي يطلب الحماية من الأخطار التي قد يتعرض لها في نفسه وأهله وماله، ويتحقق اللجوء فردياً أو جماعياً عندما يفقد الإنسان الأمن في المكان الذي يعيش فيه؛ فيفر مضطرًا حفاظًا على حياته من الخطر إلى مكان آخر أكثر أمناً.
حماية اللاجئين قيمة إنسانية أصيلة في المجتمع العربي الذي ساد فيه قبل الإسلام قوة البطش وسطوة أصحاب النفوذ، وسيادة القوي، والاستهانة بالضعيف، وكثرة الحروب بين القبائل؛ وانعدام الأمن والاستقرار في كثير من الأحيان؛ لذا استحدثوا نظام «الجوار» لحماية اللاجئين الذين يخشون على أنفسهم أو يتعرضون للظلم ويعجزون عن الحصول على حقهم؛ فأي إنسان يجد في نفسه ضعفًا في وقت ما لا ضير أن يلجأ إلى الدخول في جوار أحد الوجهاء ممن يتمتعون بالقوة والشجاعة بحيث يستطيع حمايته ونصرته، ولا يقلل ذلك من مكانة وكرامة المستجير.
إن حماية اللاجئين وإغاثة الملهوف قيمة إنسانية وخلق كريم تجلت فيه مروءة العربي وإنسانيته، وتقوم به كذلك أي امرأة لها مكانة في قومها لمن يحتاجه من الرجال، وقد أكثر الشعراء من تفضيل سيد على آخر، وقبيلة على أخرى بحسن الجوار؛ فكانوا يقولون في معرض الفخر: فلانٌ منيع الجار، حامي الذِّمار، وإذا أجاروا أشهدوا على ذلك في المواسم والأسواق، ويكتب له فلان جاور فلان، وإذا غدر منهم أحد رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به؛ فاستطاع هذا النّظام أن يَحدّ من شهوة البطش، وغريزة الانتقام ويحمي الضعفاء، وينصر المظلوم، وصار قانونًا وتقليداً اجتماعياً يحترمه الجميع، لا يجوز انتهاكه، أو الخروج عليه وإلا كان انتقاصًا ممن أعطاه جواره، وهو ما تأباه كرامة العربي(1).
حماية اللاجئين في مكة
كانت مكة سوقًا رائجة لجميع القبائل، تسود فيها سطوة أصحاب الجاه، وظلم الضعفاء وسلب حقوقهم، لكنها لم تخلُ من الشرفاء الذين آثروا إقرار الحق والعدل، وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل شبابه قبل البعثة اجتماع بعض قبائل قريش على نصرة المظلوم في دار عبدالله بن جُدعان؛ فتحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلومًا إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته، وأطلقوا عليه «حلف الفضول»(2)، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة: «لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم! ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»(3).
ولما ظهرت دعوة الإسلام تفنن المشركون في تعذيب من أسلم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالرغم من دخوله في جوار وحماية عمه أبي طالب حتى وفاته، فكانوا كثيرًا ما يتعرضون له بالإيذاء، ويطالبون أبا طالب برفع حمايته عنه وتسليمه لهم؛ ليتخلصوا منه بالقتل؛ فيأبى الاستجابة لمطلبهم.
ولما اشتد إيذاء المسلمين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة طلبًا للعيش في أمان في كنف النجاشي ملكها الذي منحهم الحماية في أرضه، ورفض تسليمهم لعمرو بن العاص عندما جاء يطلبهم، ولما خرج أبو بكر الصديق مهاجرًا إلى الحبشة لقيه بالطريق ابن الدغنة من المشركين، فطلب منه الرجوع إلى مكة والدخول في جواره، وقال: يا معشر قريش، قد أجرت ابن أبي قحافة -يقصد أبا بكر- فلا يعرضن له أحد إلا بخير(4).
وبعد وفاة أبي طالب، ورجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، أراد أن يدخل في حماية أحد سادات قريش حتى لا يضار، فتعللوا، فأرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره، فوافق على نزول النبي صلى الله عليه وسلم في جواره، وبات عنده، ولما أصبح خرج المطعم وبنوه متقلدي السيوف جميعًا، فقال المطعم للنبي صلى الله عليه وسلم: طف، ووقف هو وأولاده بالسيوف دفاعًا عنه، وإعلانًا قويًا لقريش بحمايته حتى لا يجرؤ أحد على النيل منه، فقال له أبو جهل: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت.
وقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي حسن صنيعه، فبعد أن انتصر المسلمون في غزوة «بدر»، وأسروا سبعين من المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم حيًا وكلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له»(5).
ولما اشتد إيذاء قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم اتجه إلى الهجرة من مكة إلى المدينة في حماية من أسلم من أهلها، فكانت بيعة العقبة الثانية في السنة العاشرة من البعثة تقوم على حماية الأوس والخزرج للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرته إذا هاجر إليهم(6).
وهكذا كان نظام الجوار له أثر كبير في حماية للمسلمين من بطش قريش، وكان بعض زعماء قريش يتمتع بقدر كبير من الإنسانية؛ فأظلهم بحمايته بالرغم من مخالفته لما يدعون إليه.
تجليات حماية اللاجئين اليوم
لا شك أن مشكلة اللاجئين لم تنته في عصور التاريخ المختلفة، وفي العصر الحديث تفاقمت مشكلة اللاجئين نتيجة احتلال الدول المتقدمة عسكريًا أراضي دول أخرى، والحروب بين الدول، والنزعات المسلحة على السلطة داخل الدولة الواحدة؛ مما أدى إلى نزوح جماعي للسكان المدنيين الذين يخشون على حياتهم وينشدون العيش في مكان آمن.
ولعل أكثر نموذج للنازحين يراه العالم اليوم ولا يحرك له ساكنًا ما يحدث للنازحين الفلسطينيين في غزة من أكثر من عام مضى من حرب الإبادة التي خلفت أكثر من 150 ألف قتيل وجريح، وهدم لكل مقومات الحياة، وتهديد حياة أكثر من مليوني إنسان بالقتل والجوع والمرض، ومنع عنهم الغذاء والدواء والماء، واتباع سياسة التهجير القسري للمدنيين مرات عديدة للبحث عن ملاذ آمن، ولا أمان في غزة!
لقد كان عرب الجاهلية أكثر إنسانية ورحمة في حمايتهم اللاجئين، ونصرة المظلومين من المجتمع الدولي اليوم الذي تقاعس عن تقديم الإغاثة العاجلة وحماية النازحين من شعب غزة، وعجزت دول العالم عن فك الحصار عنهم أو تقديم شربة ماء لهم، وانعدمت الإنسانية عند كثير من الدول الغربية؛ فأوقفت تمويلها لمؤسسة «الأونروا» التابعة للأمم المتحدة في غزة إحكامًا في الحصار المفروض عليهم، وإذلالاً لهم، بالمخالفة للمواثيق والأعراف الدولية وحقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة.
إن إغاثة النازحين المنكوبين في غزة واجب على كل إنسان حر بكل الوسائل المتاحة، ينبغي أن تقدمه الدول والمؤسسات والأفراد؛ فقد تحملت دولة جنوب أفريقيا عبء المحاسبة القانونية لدولة الاحتلال على جرائمها وإحراجها في المحافل القانونية، وانتفضت كثير من الشعوب في أوروبا وأمريكا نفسها ضد المذابح التي يتعرض لها شعب غزة، لكن إنسانية الدول الكبرى التي تستطيع فرض قوتها ما زالت لا ترغب في الضغط على دولة الاحتلال لوقف الحرب وتوفير أماكن آمنة للمدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية.
وتقع المسؤولية الأخلاقية والإنسانية على الجميع في تقديم الدعم ونشر معاناة شعب غزة وفضح جرائم الاحتلال بمختلف اللغات في كل المواقع الإلكترونية والوسائل الإعلامية، والعمل السياسي والدبلوماسي لفك الحصار وإنهاء الحرب وإدخال المساعدات الإغاثية لشعب غزة.
__________________________
(1) د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 4، ص 360.
(2) ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1، ص 92.
(3) مسند أحمد، مسند عبدالرحمن بن عوف (1655)، ج 2، ص 158.
(4) فتح الباري، كتاب الكفالة، باب جوار أبي بكر الصديق وعقده (2176)، ج 4، ص 555.
(5) فتح الباري، كتاب فرض الخمس، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس (2970)، ج 6، ص 279.
(6) ابن هشام، ج 1، ص 439.