نستكمل في هذا المقال ما بدأناه في المقال السابق خطوات تدبر القرآن، وهي:
ثالثاً: تدبرك في الصلاة أحلى وأيسر:
قال الله عز وجل مخبراً عن عبده زکريا: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ) (آل عمران: 39)، المحراب محل البشريات، وموضع التجليات، فضلاً عن ثواب الصلاة، فقراءتك في الصلاة أعظم من ثواب القراءة خارجها؛ فإنك في الصلاة أكثر خشوعاً وأعظم حضوراً للقلب، وتدبرك لآيات الله أيسر وأقرب، فاغتنم صلواتك في تدبر آياته، وتعرَّض للبركات الربانية التي تتعرض لها أثناء اتصالك به في الصلاة لتقوم بدورها في صنع روحك وتغيير سلوكك.
رابعاً: وناشئة الليل أقومُ قيلاً:
الرب شكور، يقابل الخطوة منك بخطوات، والشبر منك بالذراع، وذراعك بالباع، ومشيك بالهرولة، فإذا نزعت نفسك من فراشك ليلاً وآثرته على نومك وشهوتك، كافاك ربك بأن فتح لك كنوز آياته ولطائف معاني كتابه، قال تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (المزمل: 6).
فلأن مكابدة المشقة ونزع النفس من لين الفراش أشد وطئاً؛ كافأ الله صاحبها بأن جعله «أقوم قيلاً»؛ أي أكثر تدبراً للقرآن وأشد فهماً لمعانيه ومراميه.
خامساً: القراءة في كتب التفسير تنمي ملكة التدبر:
إن كثرة مطالعة كتب التفسير تفتح للعبد آفاقاً جديدة لتدبر القرآن، فقد فتح الله لعلمائنا السابقين والمعاصرين أبواباً عظيمة في فهم القرآن، وقاموا بإيداع هذه الوقفات التدبرية في كتبهم؛ ما يجعل قارئ هذه الكتب يقرأ القرآن بروح جديدة وعين بصيرة وقلب يتلهف على تلقف أنوار القرآن واستقبال آياته للعلم والعم.
وإليك هذه الآيات تدبرها علماؤنا واستخلصوا منها معاني رائعة بعد أن عرفوا مراميها، لعل قراءتها تساعدك على السير في نفس الطريق والنسج على نفس المنوال:
– (فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 148)؛ قال الإمام البقاعي: ولما كان ثواب الدنيا كيفما كان، لا بد أن يكون بالكدر مشوباً، وبالبلاء مصحوباً؛ لأنها دار أكدار، أعراه من وصف الحسن وخص به الآخرة فقال: (وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ).
– (فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 209)؛ قال القرطبي: وفي الآية دليل على أن عقوبة العالِمِ بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به.
– (فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) (المائدة: 14)؛ قال ابن تيمية: نص في أنهم تركوا بعض ما أُمروا به؛ فكان تركه سبباً في وقوع العداوة والبغضاء المحرمين، وكان هذا دليلاً على أن ترك الواجب يكون سبباً لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء.
– (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأنعام: 129)؛ قال القرطبي: وهذا تهديد للظالم، إن لم يمتنع من ظلمه؛ سلَّط الله تعالى عليه ظالماً آخر.
– (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) (التوبة: 91)؛ قال البقاعي: إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد، فلا يسعه إلا العفو.
– (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحج: 68)؛ قال القرطبي: في هذه الآية أدب حسن، علَّمه الله عباده في الرد على من جادل مراء ألا يجاب ولا يناظر ويكتفى بهذا القول الذي علمه الله تعالى نبيه.
– (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130)؛ قال ابن القيم: أمره أن يستعين به على الصبر، وهو التسبيح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود.
– (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)؛ قال ابن كثير: وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني؛ فارزقني من فضلك، وارزقني وأنت خير الرازقين.
– (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)؛ الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.
– (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31)؛ قال ابن كثير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشريعة المحمدية والهدي النبوي في جميع أقواله وأفعاله.
ولكن احذر؛ فإن تدبرك في آيات القرآن يجب ألا يدفعك إلى أن تقول في كتاب الله ما ليس لك به علم، وإنما يعني الآتي:
– أن تستخرج من قراءتك واجباً عملياً مقتبساً من أمر أو نهي قرآني.
– تصحيح سلوك أو خلق سيئ.
– تدعيم سلوك إيجابي أو خصلة حميدة.
– ترقيق قلب أو زيادة خشية لآيات العذاب.
سادساً: الترقي في التلقي:
مما يعينك على تدبر القرآن بشكل مختلف أن تتنوع مصادر تلقيك له، كيف؟
– أن تستشعر يوماً أنك تسمع القرآن مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت ماثل بين يديه مسروراً سعيداً كأنك تسمعه لأول مرة.
– أن تترقى فتستشعر أنك تسمعه من أمين الوحي جبريل وهو ينزل بالوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتصفد عرقاً كأنه اللؤلؤ على جبينه من عظمة الوحي، في أول نزول لهذه الآيات على الأرض ولعالم البشر، تعيش هذه الأجواء في صلاة من صلواتك أو خلوة من خلواتك فتشعر أن للقراءة مذاقاً آخر.
– أو تترقی أکثر فتسمع القرآن كأنك تتلقاه من الله عز وجل حين تكلم به أول مرة.
هذه الطريقة نافعة في حضور القلب غاية النفع، ذلك أنها تلقي فيه التعظيم وتهيئة لاستقبال الوحي أعظم استقبال فيشرح الصدر بالنور ويمتلئ بالسرور.
سابعاً: الجهر بالقرآن:
إن رفع الصوت بالقرآن يطرد النعاس عن العين، ويصرف الشيطان عن القلب، ويسمع القارئ كلماته التي هي كلمات الوحي؛ فيكون قد استعمل جارحتين في استقبال كلام الله؛ لسانه وسمعه وهما يؤديان إلى قلبه؛ فيكون تدبره أفضل عند الجهر بالصوت، هذا في العموم، لكنه يختلف من شخص لآخر، فيكون الإسرار في حق البعض أجلب لحضور القلب، والجهر أنفع لآخرين.
إن غاب تدبرك يوماً فارفع صوتك واجهر به، وأسمع نفسك آيات ربك، واستخرج كنوزها وأبشر بكل خير.
ثامناً: التخلص من الكِبْر ونجاسات القلب:
لماذا صرف الله تعالى أقواماً عن فهم آياته؟ لعلهم تكبروا، والكِبْر عقوبته صرف صاحبه عن فهم القرآن كما قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف: 146)، ولذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إذا كان المصحف الذي كتبَت فيه آيات القرآنُ لا يمسه إلا البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطن القرآن لا تمسها إلا القلوب الطاهرة، وأما القلوب النجسة فلا تمس حقائقه.
قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ)، قال بعض السلف: هؤلاء انصرفوا فصرف الله قلوبهم، أعرضوا فأعرض الله عنهم، جادلوا في آيات القرآن ولم ينزلوا على حكمه، ساووا بين كلام الله وكلام البشر في الأخذ منه والرد؛ فزادهم الله بُعداً على بعدهم، كما قال: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (الذاريات: 9)؛ أي يصرف عن القرآن وفهمه من استوجب هذا بإعراضه وكبره ورجس قلبه.