يرى البعض أن الأخلاق شيء مجبول عليه الإنسان فلا يمكن تغييره أو تطبيعه بطبائع أخرى، فمن امتلأ قلبه الحقد والحسد والغل والكراهية للخلق لا يمكن علاج قلبه ليستقيم على الحب وتمني الخير للغير والتألم من أجل الآخرين حين يصيبهم مصاب ما.
وتلك الفكرة تنافي فكرة الدين الذي أتى ليعالج أمراض النفس الإنسانية إلى جانب تعديل السلوك ليتوافق مع تعاليم الدين السماوي، فكما أن الأخلاق فطرية، فكذلك هي مكتسبة نتيجة البيئة المحيطة، ونتيجة اجتهاد الدعاة في تغيير الواقع الفاسد لواقع صالح ومصلح.
وقد وضح الإمام الغزالي بطلان حجة القائلين بأنه لا يمكن تغيير الخلق الإنساني قائلاً: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسنوا أخلاقكم»(1).
مكانة الأخلاق في الثقافة الإسلامية
تمثل الأخلاق الركن الثالث في دين المسلم الذي يتكون من العقيدة، والعبادات، والأخلاق والمعاملات، وعن الأخلاق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثت لأُتمم صالح الأخلاق» (أخرجه أحمد).
والثقافة الإسلامية تنظر لمحاسن الأخلاق أنها السبيل الأقرب لترجيح كفة الحسنات، فعن أبي الدرداء قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يُوضَع في الميزان أثقل من حُسْن الخلق، وإن صاحب حُسْن الخُلُق لَيَبلُغُ به درجة صاحب الصوم والصلاة» (أخرجه أبو داود والترمذي)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أُخبِركم بأحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟»، فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثًا، قال القوم: نعم يا رسول الله، قال: «أحسنكم خُلُقًا» (أخرجه أحمد).
والقرآن الكريم أولى مسألة الأخلاق عناية خاصة، وحث على الكثير من الأخلاق المفصلة التي لا تختلف عليه الفطرة السليمة لأي إنسان طبيعي، ومنهم من ليسوا مسلمين، فلا يختلف اثنان على أهمية الصدق أو الإيثار أو الكرم، أو الاعتدال في الإنفاق أو العدل وغير هذا من الأخلاق الفطرية.
فعلى سبيل المثال، تحدث القرآن عن خلق الإيثار، فقال سبحانه: (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)، وفي خلق الوفاء بالعهد الذي حاولت المواثيق الدولية أن تفرد لها آلافاً من الصفحات المدونة في محاولة لفرضها على العالم، وفشل حتى اليوم في تطبيق هذه القوانين، واستطاع القرآن فرض ذلك الخلق بمجرد تنزيل هذه الآية الكريمة، فكان خلق الوفاء بالعهد أقوى من القوانين في قلوب وسلوكيات المسلم في دولة المدينة المنورة، فيقول تعالى آمراً عباده المؤمنين: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34).
وفي النهي عن الإسراف والتبذير والبخل قال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء)، وفي خلق التعاون الذي بنيت عليه المجتمعات الإسلامية يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).
أخلاق النبوة
حين أراد الله عز وجل أن يصف نبيه صلى الله عليه وسلم فزكاه قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم جانباً من أسباب رسالته قائلاً: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2).
يقول د. عبدالحليم محمود: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمثل القرآن الكريم، وكان تطبيقاً للقرآن، لقد لبس القرآن ظاهراً وباطناً، لقد «تقرأن» إذا أمكن هذا التعبير، أو كان قرآناً، حيث امتزج بالقرآن روحاً وقلباً وجسماً، وامتزج القرآن عقيدة وأخلاقاً وتشريعاً، فكان صلى الله عليه وسلم قرآناً يسير في الناس، وكان القرآن روحاً يتنقل، وكان قلباً ينبض، وكان لساناً ينطق بالهداية والإرشاد(3).
ويقول الإمام الماوردي: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مهيئاً لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال، ومؤهلاً لأعلى المنازل وأفضل الأعمال؛ لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها، وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده، تبعث على مصالح الخلق، وطاعة الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخص وأكملهم بشروطها أحق بها وأمس، ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما دانى طرفيه من قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقاً وخلقاً وقولاً وفعلاً، إنه هو وحده الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني(4).
وسائل اكتساب الأخلاق
بالإرادة الإيمانية، والعقيدة الثابتة يستطيع المسلم أن يتأسى مختاراً بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهناك وسائل إيمانية وتعبدية تساعد المسلم على التحلي بتلك الأخلاق، وهي مسؤولية المسلم عن نفسه في المقام الأول، حيث يقول رب العالمين: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9)، فالله عز وجل ألهم النفس التقوى والفجور، والإنسان يستطيع الاختيار بكامل حريته في التزكية أو التدسية، ومن هذه الوسائل التي تدفع المسلم للتحلي بأعظم الخلق:
أولاً: أن الأخلاق الكريمة ضرورة لكونه مسلماً وجزءاً من إيمانه، فحسن الخلق هو ثلث الإسلام، والله عز وجل يقول في جملة من الأخلاق: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (أخرجه الترمذي).
ثانياً: مصاحبة الصالحين، فالمرء من الطبيعي أن يتأثر بخلق من يصاحبهم، ولذلك يقول الله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير» (رواه البخاري، ومسلم).
ثالثاً: الدعاء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو من شهد الله تعالى له بالخلق العظيم، كان يسأل الله عز وجل حسن الخلق.
وهناك العديد من الوسائل التي يكتسب بها المسلم حسن الخلق، منها قراءة القرآن مهما كانت مشقته في البداية، فإجبار النفس على تلاوة القرآن بورد يومي لا يتخلف عنه سوف تجعله على اطلاع مستمر لجملة الأخلاق التي يحث عليها الله سبحانه المؤمنين، وهناك أيضاً قراءة سير الصالحين وحسن خاتمتهم، وأيضاً التقرب إلى الله بممارستها كل يوم حتى تلين معه وتصير عادات يومية وأخلاقية، وتظل الثقافة الإسلامية هي منارة الثقافات المتوازنة بين الروح والجسد، ألهم الله الأمة رشدها، وأعادها لثقافتها المضيئة عزيزة متألقة كما كانت دوماً.
____________________
(1) إحياء علوم الدين، ج3، ص 55-56.
(2) البيهقي في السنن الكبرى (10/ 191).
(3) كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ص6-7.
(4) سيد قطب: في ظلال القرآن المجلد السادس، ج29، ص345.