تحتاج الوظائف العامة إلى مؤهلات خاصة، حيث إنها تخدم عامة الناس، وتتوقف عليها مصالحهم وقضاء حوائجهم، وقد أولتها السياسة الشرعية أهمية عظمى، حرصاً على ضبط الأمور وحسن سيرها، ولهذا دعا الإسلام إلى اختيار الأصلح لتولية هذه الوظائف، ثم حدد المعايير اللازمة لمن يتولاها، ويتبين ذلك فيما يأتي:
الإسلام.. واختيار الأصلح بالوظائف العامة
تميز النظام الإسلامي بالحرص على اختيار الأصلح لتولي الوظائف، وقد ارتكز في هذا على ما جاءت به النصوص الشرعية في الدعوة إلى حسن الاختيار والتحذير من المحاباة في ذلك.
فقد أخرج البيهقي، وابن أبي عاصم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ وَأَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَقَدْ خَانَ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ»، وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَيلَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
إن هذين الحديثين يؤكدان أن القاعدة الأساسية في تولي الوظائف العامة الصلاحية، وامتلاك المؤهلات اللازمة لها، أما ترك الأصلح والأكفأ فإنه يعد غشاً وخيانة، ولا يجوز أن يقوم المجتمع المسلم على الغش والخيانة.
المؤهلات اللازمة لتولي الوظائف العامة
حرص الإسلام على مراعاة الكفاءة اللازمة للقيام بالمهمة التي ينتدب إليها الإنسان، وقد أوضح القرآن الكريم أن الصلاحية في تولي الوظائف العامة تقوم على أمرين، هما: القوة والأمانة، حيث قال الله تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص: 26)، فقد أكدت الآية أن خير من يقوم بالوظيفة المطلوبة هو القوي الأمين.
وعندما أراد ملك مصر أن يولي نبي الله يوسف عليه السلام خزائن الأرض أكد أن المؤهلات اللازمة لهذه المهمة هي القوة والأمانة، وفي هذا يقول تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) (يوسف: 54)؛ ومعنى مكين أي متمكن من الأمور، وهذه هي القوة المطلوبة.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغفاري قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»، ففي النصوص الشرعية السابقة تأكيد وإلزام لمن يتولى الوظائف العامة أن يكون صالحاً لها وجديراً بها، وأن يكون التفضيل بين الناس عند توليها قائماً على القوة والأمانة.
أولاً: مؤهل القوة:
القوة في تولي الوظائف تعني أن يكون المرشح للوظيفة أو العمل له طاقة وقدرة على تحمل أعباء العمل المسند إليه، بأن تتوافر فيه القدرة العلمية والبدنية التي يتطلبها العمل، بحسب طبيعة ومتطلبات أدائه(1)، فإذا كانت متطلبات العمل في وظيفة معينة تقتضي علوماً خاصة وقدرات بدنية خاصة؛ فإن هذه العلوم والقدرات تكون واجبة الامتلاك عند من يتقدم لها، ولا يلزم أن تكون تلك العلوم والقدرات شرائط أساسية في تولي كل الوظائف، فلكل وظيفة علومها وقدراتها المؤهلة لها.
وقد ضرب ابن الموصلي أمثلة متعددة لذلك، منها:
أ- الْقُوَّة فِي إِمَارَة الْحَرْب، فهي ترجع إِلَى شجاعة الْقلب، والخبرة بالحروب والمخادعة فِيهَا، فَإِن الْحَرْب خدعة، كما ترجع إِلَى الْقُدْرَة على أَنْوَاع الْقِتَال مِن رمْي وَطعْن وَضرب وركوب وكرّ وفرّ.. وَنَحْو ذَلِك، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
ب- الْقُوَّة فِي الحكم بَين النَّاس؛ وهي ترجع إِلَى الْعلم بِالْعَدْلِ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كتاب الله وَسُنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والتفطن لحجاج الْخُصُوم وخدعهم، وَهُوَ معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أقضاكم عَليّ»(2)؛ أَي هُوَ أَشد تفطناً للخداع وحجج المتحاكمين وخدعهم.
ومن هذا المنطلق، فإن امتلاك القوة لأداء المهمة ضرورة لتوليها، حتى وإن كان هذا الذي يمتلكها مقصراً في بعض الجوانب الأخرى؛ لذا يقدَّم فِي ولَايَة الحروب الْقوي الشجاع وَإِن كَانَ فِيهِ فجور، على الرجل الْعَاجِز الضَّعِيف وَإِن كَانَ أَمينا، فقد سُئِلَ الإِمَام أَحْمد بن حنبل عَن الرجلَيْن يكونَانِ أمينين فِي الْغَزْو أَحدهمَا قوي فَاجر وَالْآخر صَالح ضَعِيف مَعَ أَيهمَا نغزو، فَقَالَ: أما الْفَاجِر الْقوي فقوته للْمُسلمين وفجوره على نَفسه وَأما الصَّالح الضَّعِيف فصلاحه لنَفسِهِ وَضَعفه على الْمُسلمين يغزى مَعَ الْقوي الْفَاجِر.
وإِذا لم يكن فَاجِرًا كَانَ أولى بإمارة الْحَرْب مِمَّن هُوَ أصلح مِنْهُ فِي الدّين إِذا لم يسد مسده، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَعْمل خَالِد بن الْوَلِيد على الْحَرْب مُنْذُ أسلم وَكَانَ ثمَّ من هُوَ أفضل مِنْهُ فِي الدّين لَكِن كَانَ رَضِي الله عَنهُ غَايَة فِي الْحَرْب حَتَّى قَالَ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن خَالِداً سيف الله على الْمُشْركين»، مَعَ أَنه أَحْيَانًا كَانَ يعْمل مَا يُنكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3).
ثانياً: مؤهل الأمانة:
الأمانة في تولي الوظائف تعني شعور المرء بتبعته في كل أمر يُوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسؤول عنه أمام ربه، ومن ثم يجب عليه أن يكون ذا ضمير يقظ، تُصان به حقوق الله وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال(4).
قال ابن تيمية: وَالْأَمَانَة ترجع إِلَى خشيَة الله، وترك خشية الناس، وَألا يَشْتَرِي بآيات الله ثمناً قَلِيلاً، وَهَذِه الْخِصَال الثَّلَاث الَّتِي أَخذهَا الله على كل من حكم بَين النَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)(5).
فالحكم بما أنزل الله يقتضي أن يكون المسلم أميناً يخشى الله وحده ولا يغش الرعية فيما ولاه الله عليهم، إذ من فعل ذلك حرم الله عليه الجنة، ففي صحيح مسلم عن معقل بن يسار قال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ الله عليه الجنة».
_________________________
(1) العمل في الإسلام: د. عيسى عبده، ص 128.
(2) صحيح الجامع (868).
(3) حسن السلوك الحافظ دولة الملوك: ابن الموصلي، ص 96.
(4) خلق المسلم: الشيخ محمد الغزالي، ص 38.
(5) السياسة الشرعية: ابن تيمية، ص 17.