أبدأ هذا المقال بكلمات أراها معبرة غاية التعبير عن مضمون هذا المقال للأستاذ محمد رشدي عبيد في بحثه المعنون بـ«ملامح تربوية في رسائل النور» فيقول في صدره: «عوامل شتى دفعت النورسي باتجاه الفعل التربوي خارجية وداخلية.. غربة حادة على تل يوشع، وجلسة روحية خصبة على ضفاف نهر الفولجا، وتلاوة قرآنية خاشعة في جامع بايزيد، كلها أوقدت في ذاته صحوة روحية قادت سفينة حياته نحو تخوم ترضي توقه العميق للخلود..
وقد كملت الشعرات البيض الزائدة في رأسه مهرجان النور في صحوته بدلالاتها المتوهجة، ووجهت سطوة فكره بروحه، كما فتحت زياراته لأبي أيوب الأنصاري آفاقاً جديدة في تصوره الغيبي أدمجته في الفضاء الآخر بكل إيحاءاته وأسراره.. آما القرآن، فكان يصنع في داخله معماراً جديداً أصيلاً، ويضرم نار توحده، ويؤصل في ذاته الحنين إلى التبليغ الرسالي.. طبيعته الشاعرية المرهفة المتوزعة بين التوق اللامحدود، وبين شد الواقع المحدود.. وصلاحه الذي أزهده في زينة الأرض الخادعة ميله الجارف للتبليغ ألحت عليه ليتجه هناك إلى «بارلا» ليحضر أدوات صناعة تاريخ صناعة الإيمان في زمانه ومكانه.. فكان رجل القدر حقاً».
وهذه العبارات تصف بحق دوافع النورسي نحو العمل التربوي. وفي الحقيقة، إن كافة الإصلاحيين والمهتمين بالفعل التربوي دفعتهم ظروف مشابهة بصورة تلفت النظر، ولو تعرضنا لبعضهم على مدى حقبة تاريخية معينة، حتى عصرنا الحديث نجد مثلاً: الإمام أبوحامد الغزالي صاحب «إحياء علوم الدين» فعصره واحد من العصور الصعبة التي مرت بالإسلام، خلافة منهارة، تتناوشها من أطرافها دول صغيرة، ومن داخلها ثورات الباطنية، والملاحدة وتفت في عضدها حركة فكرية مستبدة تعتمد على العقل، وتتطرف في الاعتماد عليه، وتنظر للنصوص من القرآن والسنة نظرة تهمل أكثر ما فيها، وتاؤل ما فيها اتباعاً للهوى وفقهاء السلطان يفتون الناس بهوى السلطان، والناس يتبعون شهواتهم ولم يبق من الدين إلا رسوم وشعائر، لاروح فيها ولا ثمرة لها، والغزالي عالم في عصره يتحرك ويفتي، ويعلم الناس، وفجأة يترك الغزالي كل ذلك، ويعتزل الناس ثم يعود إليهم في صورة «الغزالي الجديد» كما عاد النورسي في صورة «سعيد الجديد» ويالها من مشابهة؛ فالغزالي الجديد انطلق لينقذ الإيمان في عصره، وكان أعظم ثمرات عمله هوكتابه الخالد لاستمداده من الكتاب الخالد المبارك وهو القرآن الكريم، أعني كتاب «إحياء علوم الدين» الذي وضع فيه ثمرة فكره ورحلته وكانت السمة المميزة للكتاب هي إعادة تربية المسلم تربية سلوكية تعتمد القرآن والسنة، وتتجنب تعقيدات فقهاء الشكل، وتهويمات صوفية الفناء والحلول ووحدة الوجود وتنقذ إيمان الناس من خطر الإلحاد، وتصلح ما أفسدته السياسة، والغريب أيضاً أن يشترك الغزالي مع النورسي في البعد عن السياسة في وضعهما الجديد.
ثم نتحرك سريعاً في الزمان والمكان إلى عصر مقارب للنورسي أو يسبقه قليلاً هنا في مصر، ونرى المصلح الفريد الإمام محمد عبده، ولنتأمل العصر الذي ظهر فيه محمد عبده فنرى خلافة متهاوية، واحتلالاً أجنبياً وسياسة فاسدة تلهث وراء شهواتها، وأحزاباً متصارعة تتاجر بآلام الناس، وتبيع مصالح الأمة في سبيل الوصول للسلطة، وإسلاماً سلبياً غطته أوهام وخرافات وجمود وتقليد حتى عاد من يتحدث عن الكتاب والسنة الصحيحة فقط يعد مهرطقاً أو زنديقاً، وتاه الناس بين ألاعيب السياسة الفاسدة وضغط الواقع المؤلم، وفتاوى فقهاء السلطان وجمود مشايخ آخرين وخرافات فذهبت معالم الإيمان من نفوسهم، فظهر الإمام محمد عبده أولاً كتلميذ للأفغاني يصول ويجول في ميدان السياسة ويفتي ويعلم الناس، ثم ينفى محمد عبده خارج مصر فترة طويلة ثم يعود «محمد عبده الجديد» الذي يلعن السياسة وما اشتق منها، ويبدأ عمله التربوي الضخم لإنقاذ الإيمان؛ منطلقاً من القرآن الكريم ويضع بدايات «تفسير المنار» الذي استكمله فيما بعد تلميذه رشيد رضا لقد حولت مدرسة «تفسير المنار» نظر الناس للقرآن الكريم من مجرد كتاب يقرأ لحصول البركة في المال أو الولد أو للشفاء أو لفك السحر إلى كتاب هداية، كما نزل على محمد [ كتاباً يهدف لتربية الإنسان وضبط سلوكه.
أما النورسي فنشأ في عصر مقارب، وفي قلب الخلافة الإسلامية المنهارة رأى الدول الاستعمارية، وهي تتكالب على تركة الرجل المريض، ورأى خليفة ضعيفاً تسيطر عليه حاشيتة، وتدفع عجلة الاستبداد والتخلف في الخلافة، وجمعيات ماسونية وشيوعية ويهودية تسعى لنخر جسم الخلافة في كل مكان تثير نزعات قومية هنا، ونزعات طائفية هناك وتتحدث عن مظاهر خرافة فتلصقها بالإسلام، ومظاهر حضارة فتلصقها بالإلحاد، وفقهاء السلطان يسعون وراء المناصب والأموال ويبيعون الدين بعرض من الدنيا، وصوفية فقدت مضامينها الروحية، فغرقت في الأوراد وسلسلة المشايخ، وتركت مكانها بين الناس، وفي الخلافة ليستولي عليه الآخرون من الملاحدة، وأصبح القرآن رسماً بين الناس لايعرفون روحه ولا يستنشقون هدايته، ومع هذا يعلن «جلادستون» رئيس الوزراء البريطاني أنه لا فلاح للاحتلال طالما هذا القرآن بين أيدى المسلمين، ويسمع النورسي، ويمارس مساعي شتى من خلال الدعوة، ومن خلال السياسة ويشترك في الجهاد وفي الحرب العالمية الأولى ويأسره الروس، ثم يمن الله عليه بالهروب، ويظن النورسي بسياسيي عصره خيراً، فيعظهم ويحاول التعاون معهم لخدمة الإسلام، وفجأة يستبين له وجههم القبيح وجه الاستبداد والنفاق والبغض للإسلام والعداء له، فينفض يده من السياسة وألاعيبها ويتحول إلى «سعيد الجديد» الداعي إلى إنقاذ الإيمان في قلوب الناس للإبقاء على الخلافة حية في القلوب خلافة الإنسان المؤمن لله تعالى في الأرض.
وهكذا ظهر النورسي المعلم؛ فالمعلم الحق لايكون إلا بالانصهار داخل مجتمعه، فلم يكن النورسي معلماً في برج عاجي، يؤلف الكتب وينظر بعيداً عن الناس. ويحسن بنا أن ننقل كلاماً طيباً في صفات المعلم الحق لمعلم شهير، وصاحب مؤلفات قيمة في هذا المجال ألا وهو «جلبرت هايت» صاحب كتاب «فن التعليم»، حيث يقول في كتابه ذلك عن صفات المعلم الناجح: إنه يجب أن يكون:
1- غزير المادة ويعرف مادته غاية المعرفة.
2- عطوفاً على تلاميذه.
3- خبيراً بالتلاميذ.
4- محباً للمادة التي يدرسها.
5- أُفُُقه واسع وهمتة عالية.
6- قوي الذاكرة.
7- قوي الإرادة.
وفي الحقيقة فهذه الصفات واضحة في النورسي غاية الوضوح؛ فهو يعرف ما يعلمه للناس غاية المعرفة وأعمقها، فهو يتحدث عن «الإيمان» وهو الذي ذاقت نفسه بشاشته وصهرت الأيام إيمانه واضحاً لا لبس فيه. وحبه لما يعلمه لا دليل عليه أكبر من جهاده الطويل وتحمله النفي والسجن وحياة الزهد والتقشف دون زوج أو ولد أو أهل يحيطون به يخففون علية ما يلقى من صعاب وأهوال. وأما عطفه على تلاميذه، فرسائل النور تقطر رحمة وشفقة على المتعلمين والمريدين.
هذا بالإضافة إلى معرفته الواسعة بتلاميذه والتي تظهر من خلال الرسائل المتبادلة بينه وبينهم والتي تناقش دقائق حياتهم ودواخل أنفسهم. والأفق الواسع يظهر لمن يقرأ إجاباته لتلاميذه عن مواضيع غاية في الحرج؛ مثل ماشجر بين الصحابة بعد رسول الله [، والخلاف بين الشيعه والسنة، والأوضاع السياسية الحرجة في تلك الفترة وأمثالها مما تجده متناثراً في مجموعة الرسائل؛ فهو يصدر فيها عن عقل راجح، وعلم غزير وموضوعية مذهلة، وعساها تكون موضع دراسة موسعة إن شاء الله تعالى.
ثم لنتبين وجهة نظر النورسي نفسه في المعلم الحق نستمع إليه يصفه فيقول: «إخواني الصادقين الأوفياء؛ إنه لأجل اطمئنان عوام المؤمنين، وتقبلهم حقائق الإيمان دون تردد يساورهم يلزم في الوقت الحاضر وجود معلمين يحملون من الإيثار ما يجعلهم يضحون لا بمنافعهم الدنيوية وحدها بل بمنافعهم الأخروية أيضاً (لعله يقصد إيثار تعليم الناس على عمل النوافل وأمثالها) في سبيل منافع أهل الإيمان الأخروية. فيكون الدرس الإيماني خالصاً نقياً بحيث لايفكرون فيه بالمنافع الشخصية مهما كانت. بل يسعون في الخدمة الإيمانية بالحقائق نيلاً لرضا الله.>
المراجع
1- مجموعة رسائل النور – ترجمة إحسان قاسم الصالحي (طبعة مصر – سوزلر 1995م)
2- بديع الزمان سعيد النورسي في مؤتمر عالمي حول تجديد الفكر الإسلامي ( سوزلر للنشر 1992م- مصر)
3- فن التعليم – جلبرت هايت ترجمة: محمد فريد أبوحديد (الأنجلوالمصرية – 1954م)