لم يجد السياسي اليمني المخضرم د. عبدالكريم الإرياني وهو يتحدث عن وضع الدولة اليمنية سوى لفظ شاذ, حيث إن جماعة مسلحة تستولي على مؤسسات الدولة، وتحاصر آخر ما تبقى فيها وهو رئيس الجمهورية, في وقتٍ تبني مؤسساتها الخاصة العسكرية والأمنية والقضائية، وتفرغ
لم يجد السياسي اليمني المخضرم د. عبدالكريم الإرياني وهو يتحدث عن وضع الدولة اليمنية سوى لفظ شاذ, حيث إن جماعة مسلحة تستولي على مؤسسات الدولة، وتحاصر آخر ما تبقى فيها وهو رئيس الجمهورية, في وقتٍ تبني مؤسساتها الخاصة العسكرية والأمنية والقضائية، وتفرغ تلك المؤسسات المسيطر عليها وقراراتها من محتواها أو تبتلعها من الداخل.
تحدث د. الإرياني في أقوى حوار له منذ سنوات طويلة, وهو مستشار لرئيس الجمهورية، وتقلد منصب رئيس الوزراء أكثر من مرة, عن جماعة مسلحة تدعي مكافحتها للفساد وتمارس فساد نهب معسكرات الجيش، وإسقاط مؤسسات الدولة، وعن الشراكة الوطنية فيما هي لا ترى أحداً يستحق أن يكون فقط مواطناً يمنياً سواها, وتستبعد الشراكة تماماً.
لم يكن صريحاً د. الإرياني بشأن التبعية لإيران من قبل جماعة الحوثي (أنصار الله كما تسمي نفسها), لكنه سرد روايات عن مفاوضاته مع ممثلي زعيم الجماعة قبل سقوط صنعاء في 21 سبتمبر الماضي بيد مليشيات الجماعة, تكشف مدى ارتباطها بإيران, حيث إن بنود الاتفاق كانت ترسل إلى زعيمهم بصعدة، وفي اليوم التالي كان يسلمها إلى الرئيس اليمني “عبدربه منصور هادي” الوسيط العُماني كمطالب إيرانية.
الوسيط القادم من سلطنة عُمان الشقيقة ممثلاً للسلطان “قابوس بن سعيد” كان يبذل جهوداً حثيثة للتوفيق بين الرئاسة اليمنية والسلطات الإيرانية في طهران بما فيها طاقم سفينة الأسلحة التي ضبطتها السلطات اليمنية, إضافة إلى إيرانيين ولبنانيين ضبطتهم أجهزة الأمن اليمنية باعتبارهم خبراء عسكريين وأمنيين يعملون لصالح جماعة الحوثي.
كبلت جماعة الحوثي ومليشياته المسلحة الدولة اليمنية إلى حد فرض ممثلها الذي عيَّنه الرئيس “هادي” (صالح الصماط) في أي لقاء للرئيس مع يمنيين أو أجانب, في وقت تُقيل محافظين ومسؤولين أصدر بهم “هادي” قرارات جمهورية وتنصب وتعين بديلاً عنهم, وما يبرز الوضع الشاذ الذي تحدث عنه الإرياني أن قائد المليشيات المسلحة أبو علي الحاكم الذي أدانه قرار مجلس الأمن إلى جانب قيادي آخر والرئيس السابق “علي عبدالله صالح” هو من يظهر في الصورة كل مرة لينصب محافظاً بقرار من الجماعة وليس رئيس الدولة.
تصاعدت الأمور أكثر إلى حد منع رئيس هيئة أركان الجيش المعين مؤخراً من الرئيس “هادي” من الوصول إلى مكتبه في وزارة الدفاع, واضطر وزير الدفاع إلى طرد مليشيات الحوثيين المسيطرة على الوزارة والقيادة العليا للقوات المسلحة منذ سبتمبر, لكن المليشيات حاصرت الوزارة وتمترست على أسوار مدينة صنعاء القديمة لأكثر من يومين إلى أن انسحبت وفق صفقة قيل: إنه بموجبها سيتم إدماج آلاف من أفراد المليشيا في وحدات الجيش.
تزامن ذلك مع اقتحام أكبر مؤسسة صحفية يمنية (مؤسسة الثورة) والسيطرة عليها، وإصدار صحيفة الثورة والتي أزيلت منها حتى صور الرئيس “هادي” نفسه, ورفض الصحفيون كما نقابة الصحفيين ووزارة الإعلام شرعية الجهة التي تصدر الصحيفة منذ أسبوع, وأعلن الجميع براءتهم مما ينشر فيها من مواد تتبع سياسة الجماعة المتدثرة بوهم مكافحة الإرهاب و”تنظيم القاعدة”؛ لإقناع أمريكا والغرب وآخرين بالاستمرار في دعمها في حربها المزعومة هذه.
الأمر لم يقف عند حمى السيطرة على معسكرات ومؤسسات الجيش والأمن والإعلام والوزارات الخدمية, وقبلها مقرات البرلمان والحكومة ومجلس الشورى والبنك المركزي وبنوك حكومية وخاصة والمنافذ الجوية والبحرية والبرية, وتهتم بشكل كبير بالمؤسسات المالية والإيرادية والنفطية من جانب والمؤسسات الرقابية والقضائية كجهاز الرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد ونيابة الأموال العامة.
اهتمام جماعة الحوثي بتلك المؤسسات المالية والنفطية والرقابية والقضائية يبدو واضحاً, أنها تمارس نهب المال العام والعبث به لتغطية نفقات مليشياتها ومشايخ القبائل والمسؤولين الذين ساندوها ومازالوا، ومنع أي إدانة قانونية لها جراء ذلك, وفي ذات الوقت شرعنة عمليات النهب للأموال الخاصة من مشاريع استثمارية ومنازل وممتلكات خاصة بخصومها تحت لافتة مكافحة الفساد والفاسدين، وتركزت مهمتها على من عُرفوا بمناصري ثورة 11 فبراير 2011م, مثل رجل الأعمال الشيخ حميد الأحمر، والقائد العسكري اللواء علي محسن.
تجاوز الأمر خصومها الذين خاضت حروبها خلال العامين الأخيرين تحت لافتة إسقاطهم, وبدأت الآن بملاحقة وابتزاز رأس المال اليمني الذي تأسس ونما على مدى 70 عاماً, وكان آخر عملياتها استهدفت مجموعة شركات هائل سعيد أنعم، وإلغاء عقد تجاري لها مع شركة النفط الحكومية تحت مبرر تلاعب المجموعة بمليار ريال يمني.
وفي المقابل, تصاعدت حالة المقاومة الشعبية الرافضة لمليشيات الجماعة وسيطرتها على المدن والمؤسسات والجامعات, وتصدر لذلك طلاب جامعة صنعاء الذين كانوا هم وزملاؤهم من شباب مدينة تعز هم الشرارة التي أشعلت ثورة فبراير 2011م ضد نظام الرئيس السابق “علي عبدالله صالح”, وهذه المرة ينتفض اليمنيون ضد الجماعة في صنعاء وتعز وإب والحديدة معلنين رفضهم لمليشياتها وإسقاط الدولة ومؤسساتها أو اختطافها كما تقول بعض هتافاتهم.
وتخوض عدة قبائل في مناطق رداع بمحافظة البيضاء وسط اليمن معارك استنزاف ضد مليشيا الجماعة، ووقفت حجر عثرة ضد تمددها هناك, فيما مازالت قبائل محافظة مأرب ترابط على تخوم المدينة لتمنع سيطرة مليشيا الحوثي على محافظة هي مصدر غالبية النفط والغاز الطبيعي المسال, إضافة إلى المحطة الغازية التي تمد العاصمة وغالبية المدن الرئيسة بالكهرباء.
تفرض الجماعة سيطرتها على القرار اليمني في مؤسسات الدولة المركزية سواء كانت رئاسة الجمهورية أو الحكومة أو البرلمان وقيادة الجيش والأمن والمخابرات وغيره, وتبتلع الدولة من الداخل, وتفرض قراراتها بقوة السلاح على السلطات المحلية حد فرض قرارها الخاص بإلغاء إجازة السبت من المدارس العامة في عدد من المحافظات واستبدالها بيوم الخميس بزعم أن اتخاذ الحكومة ليوم السبت راحة أسبوعية تشبهاً باليهود والأمريكيين.
ورغم ذلك, تتخذ الجماعة مؤسساتها الخاصة, فمليشياتها تقوم بعمليات القتل والاعتقال والخطف والإخفاء القسري للمواطنين وخاصة الناشطين السياسيين والإعلاميين, ولا حتى تستخدم قوات الشرطة للقيام بالمهمة هذه, في حين أنها أنشأت محاكم خاصة بها في مقراتها، ومن يشكو غرماءه إليها تستدعيه لتقضي بينهما، وإن لم يتجاوب قد يفقد حياته لرفضه ذلك, وهناك حالات عديدة في إحداها قتل شاب بدولاب غرفة نومه بمدينة إب.
أقامت الجماعة معتقلات خاصة بها في منشآت حكومية كمعسكرات وإستادات رياضية (عمران وإب خاصة)، ومنازل احتلتها كمنزلي الشيخ حميد الأحمر، واللواء علي محسن بالعاصمة صنعاء، وتحدثت منظمات حقوقية عن مئات المختطفين والمخفيين قسرياً، ونشرت الصحافة أسماء وقصصاً لحالات تعرضت للتعذيب، وبعضهم فقدوا حياتهم في تلك المعتقلات.
يرفض كثيرون ما وصل إليه الوضع الشاذ في اليمن كما وصفه السياسي الكبير د. الإرياني, ويعلنون ذلك بأشكال احتجاجية عدة تتصاعد وتيرتها باستمرار, تشير إلى أن اليمن سيستقبل العام القادم (2015م) بنضال يمني جديد عنوانه استرداد الدولة الهشة التي ناضلوا منذ عقود لبنائها واختطفتها مليشيات مسلحة تختطف حتى رئيس الدولة الذي منعته من مغادرة البلاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء فحوصاته الطبية الاعتيادية.
لم يعد اليمنيون يراهنون على رئيس صار رهينة، وحكومة تحت طلب المليشيات المسلحة المرتهن قرارها لدى سلطات طهران وآيات إيران, وفقدوا الأمل في إقليم تواطأ ووقف محايداً حتى سلمت خاصرته لخصمه الإقليمي, وصار المجتمع الدولي ممثلاً بالولايات المتحدة ودول أوروبية وروسيا متهماً بالتساهل وربما التآمر على اليمن وثورة شبابه بصورة مختلفة عن مثيلاتها من ثورات “الربيع العربي” في مصر وليبيا وسورية.