إن خاتمة الشرائع السماوية وهي شريعة الإسلام، قد حفلت وتكفلت بكل ما يصلح شؤون الأنام، فمن ذلك عناية دين الإسلام بالأسرة وأفرادها، عناية بالغة قد يطول المقام في سردها وتعدادها.
وقد تجلت عناية الإسلام بالأسرة في اختيار الزوجة والحث على الظفر بذات الدين، التي إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها صانته في المال والبنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (أخرجه البخاري ومسلم).
وإن من بركة الدين على المتدينين: ذكر الله تعالى في كل وقت وحين، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك: لم يضره شيطان أبداً» (أخرجه البخاري ومسلم).
فصرف العناية لحسن تربية الأولاد في شريعة الإسلام: قد جاء الحث عليه قبل أن تستقر الأجنة في الأرحام.
كما جاء الحث بعد ذلك على حسن التسمي، لما لهذا الاسم الحسن من أثر بالغ على المتسمي، فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أحب أسمائكم إلى الله عبدالله وعبدالرحمن».
فقد يورث الاسم الحسن صاحبه بعض ما فيه من فضائل الأوصاف، وربما كان له أوفر الحظ والنصيب من قبح ما فيه من دلائل الاتصاف، فعن المسيب بن حزن رضي الله عنه: «إن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ قال: حزن.
قال: أنت سهل.
قال: لا أغير اسما سمانيه أبي.
قال: سعيد بن المسيب: فمازالت الحزونة فينا بعد» (أخرجه البخاري).
وتتجلى شمائل ومحاسن دين الإسلام التي ليس لها انقطاع، برعاية الطفل بعد ذلك حولين كاملين حتى يتم له الرضاع، فعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه: «أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، واني أريد أن تطهرني.
فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت.
فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى.
فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم.
قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني.
وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً؟ فوالله، إني لحبلى.
قال: أما لا، فاذهبي حتى تلدي.
فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته.
قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبي الله، قد فطمته وقد أكل الطعام.
فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس -وهو أحد أعوان الظلمة الذين يأخذون الجباية عند البيع والشراء – لغفر له.
ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت» (أخرجه مسلم)، وفي رواية له: «فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: لقد تابت توبة، لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟».
فهذه عناية الإسلام برضاعة طفل قد تولد من السفاح! فما ظنكم بحسن رعاية أحكامه لطفل هو ثمرة النكاح؟
لذا نجد أن الشريعة قد أولت الطفل حظه من المداعبة، وفسحت له قبل سن التمييز وزمن التأهيل في الملاعبة، فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص لسانه أو قال شفته – يعني الحسن بن علي صلوات الله عليه».
قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: «وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم» (أخرجه أحمد).
فإعطاء الطفل حظه من اللعب من حسن اللطف، وإن كان لعبه بوقت العبادة فإنه يغض عنه الطرف، فعن شداد بن الهاد رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر، وهو حامل الحسن أو الحسين، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها.
فقال شداد بن الهاد رضي الله عنه: إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله: إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها، فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه قد يوحى إليك، قال: فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (أخرجه أحمد والنسائي).
فإذا أخذ الطفل حظه من الترفيه، وبلغ السن الذي يصلح فيه للتنبيه: فإنه يعود حينئذ على عبادة مولاه، فيؤمر لسبع سنين بأن يقيم الصلاة، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» (أخرجه أحمد وأبو داود).
وكما أظهرت الشريعة عنايتها بأركان الإسلام: فقد تجلت فيها رعايتها للتحلي بآدابه العظام، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال «كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» (أخرجه البخاري ومسلم).
ومما تجدر إليه الإشارة معشر الكرام: أثر تشجيع الوالد ولده بمديحة الكلام، إذا بدر منه ما يستوجب الثناء والإكرام، فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا تحتُّ ورقها، فوقع في نفسي أنها النخلة، فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر، فلما لم يتكلما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبتاه، وقع في نفسي أنها النخلة، قال: ما منعك أن تقولها، لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا، قال: ما منعني إلا أني لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما، فكرهت» (أخرجه البخاري ومسلم).
كما يلاحظ في مقابل هذا الأمر معشر الإخوة الكرام:
أن يؤدب الوالد ولده إذا بدر تقصير في شرائع الإسلام، أو عارض بعقله شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها، قال: فقال بلال بن عبدالله: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبدالله: فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن» (أخرجه مسلم).
فهذه بعض دلائل الشرع الحنيف المكتنف بالرشاد والسداد، والتي تشتمل على جليل التنبيه وجميل التنويه في تربية الأولاد.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.
المصدر: جريدة “الأنباء”.